فنون

أيوب طارش: العزف المنفرد على وتر الروح

 بدأ أيوب طارش تمرين صوته الجميل على أداء أغاني محمد عبد الوهاب، وتقليد روائع التراث الغنائي اليمني يمن مونيتور/المدنية

من الصعبِ الكتابة عن أيوب طارش فهو سيرةٌ شعبية، استعادها الناس كثيراً، وتداولوها بعنايةٍ واهتمامٍ؛ حتى لم يبقَ فيها ما يخفى. و أيوب ببساطتِه وتلقائيتِه ظلَّ كتاباً مفتوحاً لكل محبيه، وعُشّاق فنه، وهو من فنانين قلائل نجحوا في كسب محبة الجمهور، والحفاظ على تلك المحبة المتزايدة يوماً بيوم، وعاماً بعد عام.
 بدأ أيوب طارش تمرين صوته الجميل على أداء أغاني محمد عبد الوهاب، وتقليد روائع التراث الغنائي اليمني، ثم انصرف إلى البحث عن صوته الداخلي، وخصوصية شجنه؛ فكانت أغنيته: “رسالة حبيب” الذائعة بمطلعها:” بالله عليك وامسافر لو لقيت الحبيب/ بلّغ سلامي إليه/ وقل له كم با تغيب؟ ” من كلمات أخيه محمد طارش عبسي شهادة ميلاده مُغنياً وملحناً واضح الخصوصية.
 وعلى امتداد أربعين عاماً حرص أيوب طارش على أن يكون صوت اليمن الجمهوري، في مختلف الظروف والأحداث، متسامياً  بفنه فوق كل الاختلافات، والتحيّزات. ولسان حاله ما غنَّاه لكل يمني:” املأوا الدنيا ابتساما/ وارفعوا في الشمس هاما/ واجعلوا القوة والقدرة في الأذرع الصلبة خيراً وسلاما/ واحفظوا للعز فيكم ضوءه/ واجعلوا وحدتكم عرشاً له/ واحذروا أن تشهد الأيام في صفكم/تحت السماوات انقساما/ وارفعوا أنفسكم فوق الضحى/أبداً عن كل سوءٍ تتسامى”.
أيوب والشاعر الفضول:
 عُرِف عبدالله عبد الوهاب نعمان ـ المُلقَّب بـ ” الفضول” ـ مُناضلاً وشاعراً وصحفياً و سياسياً، وعُرِف أيوب طارش قبل لقائه بالفضول مُغنياً شجي الصوت، حميم الأداء. وكان للقائه بالشاعر الفضول ذلك التحوّل المشهود في الأغنية اليمنية.
 وبهذا اللقاء كان إعلان مولد الأغنية التَعِزِّية؛ التي لم تكنْ قبل ذلك معروفةً بخصائصها اللغوية والموسيقية، وصار لها بفضل هذا التعاون الفني أن تظهر واضحة المعالم إلى جانب بقية ألوان الأغنية اليمنية المعروفة: الصنعانية و اللحجية والحضرمية و العدنية. وقد أنتج هذا الثنائي المبدع عدداً كبيراً من الأغاني الشهيرة، و لفت الأنظار لقالب غنائي خاص.
 وانتبه اليمنيون إلى أن “أيوب طارش” صار أكثر من” مُغَنِّي” وأكثر من صوت الشجا والحنين. فهو في طريقه لأنْ يكون ظاهرةً غنائيةً فارقة في تاريخ الأغنية اليمنية. ومِن يومها أصبح كلٌّ من الشاعر الفضول والمُغَنِّي أيوب طارش يُعرف بصاحبه، ويذكرُ في سياق الحديث عنه.
الفن رسالة:
 يَعرف الناسُ أيوب طارش شخصيةً شديدة التهذيب واللطف والنأي بالنفس عن الادّعاء، لم يسعَ للشهرة ولم تغرُّه الشهرة حين جاءت. و لم يستطعْ بريقُ الألقاب التي خُلعتْ عليه، والحفاوةُ التي يقابله بها الناس أنْ توقعه في شرك النرجسية.
 لا يتحدث أيوب طارش عن ذاته، ولا يرى في نفسه أيَّ تفوّقٍ أو امتياز؛ فهو يعزو نجاحه للمحاولة والتوفيق من الله يقول في إحدى المقابلات الصحفية:” أحمد الله أنْ رزقني محبة الناس، فكل فنان يجب أن يكون الابن والأخ والصديق، وأن يكون لسان أبناء جلدته والمعبّر عن أحوالهم، ومترجماً لما في نفوسهم من هموم وأشجان وأفراح وأحزان كل الناس”.
 يُحسُّ كلُّ مُستمعٍ لأيوب أنه يُغَنِّي له وعنه، ولذلك يرى فيه فنّانه الأول. ولاستغلال محبة الناس لأيوب أرادتْ بعض الأحزاب السياسية أن يكون مرشحها للمجلس النيابي؛ فكان له موقفٌ عبّر عنه بلا مواربة، قائلاً: ” أنا فنَّان لا أستطيع أن أقدَّم للشعب شيئاً في السياسة، ولا أريد أن أتحمَّل مسئولية لا أقدر عليها ولستُ لها”.
 رغم قسوة الظروف المعيشية التي عانى منها أيوب فقد ظلَّ زاهداً ، لم يسخِّر فنه للتكسب أو التقرَّب من أحد. و في هذا السياق يقول في إحدى مقابلاته الصحفية: ” الغناء رسالة قبل أنْ يكونَ صوتاً جميلاً وكلماتٍ يصلُ معناها إلى كلِ قلب مترجمةً لكل الأحاسيس والمعاني.”
وهذا الموقف انعكس على كلِّ ما أبدّعه لحناً وغناء، وعلى كل علاقاته الفنية والحياتية.
في مقام الغناء:
 أيوب طارش فنّانٌ متعددٌ متجدد، لحَّنَ وغنّى مئات الأغاني، ولأغانيه حضورٌ دائمٌ ومستمرٌ في التداول اليومي، فهي مقاماتُ شجنٍ خالدٍ في قلوب الناس و أذهانهم، تتجددُ على مرور الزمن وتزيد رسوخاً في الوجدان الجمعي للشعب اليمني. و من الصعب أن يُشار إلى جانبٍ من أغانيه دون آخر.
 
 ومن قبيل المقاربة ربما جازتْ الإشارة إلى تلك الجوانب المتنوعة ببعض المسميات الغالبة عليها بحسب مضامينها, كأنْ نقول: الأغنية الوطنية، والعاطفية، والصوفية، وأغنية الغربة، وأغنية الأرض…الخ.
الأغنية الوطنية:
 بصوت أيوب طارش يصبحُ الفرقُ جلياً بين الأغنية السياسية والأغنية الوطنية في تاريخ الأغنية اليمنية؛ فهو لم يتبنَ أي ايدلوجيا، ولم يمارس أيَّ دعايةٍ لأي اتجاهٍ أو تيارٍ سياسي على امتداد عمره الفني ولم يقبل المساومةَ على حرية الفن.
 التزم أيوب موقفاً واضحاً من قضايا وطنه، منحازاً للشعب اليمني في عمومه، وغنَّى مئات الأغاني لتعميم حب الوطن. وظلت أغانيه ببعدها الثوري وألحانها الحماسية ترفع الوعي الجمعي، وتحشدُ الجماهير اليمنية حول عددٍ من القضايا التي تهم الوطن والمواطن.
 مع صوت أيوب طارش رددَ كلُّ يمني:” بلادي بلادي بلاد اليمن، أحييك يا موطني مدى الزمن». و مع لحن أيوب يهتفُ طلبة المدارس كلَّ صباحٍ تحيةً للعلم بالنشيد الوطني الذي لحنَه وغنَّاه أيوب: ” رددي أيتها الدنيا نشيدي، و أعيدي و أعيدي، وامنحيه حللاً من ضوء عيدي، واذكري في فرحتي كل شهيدِ.”
و هذه الأغنية بمضامينها الوطنية العالية تُعدُّ وثيقةَ عهدِ كل مواطنٍ لوطنه وشعبه، وشهدائه، ودستوراً لكل يمني “عشتُ إيماني وحبي أمميا/ ومسيري فوق دربي عربيا/ وسيبقى نبض قلبي يمنيا/ لن ترى الدنيا على أرضي وصيا”.
وفي ثورة 11فبراير 2011م المعروفة بثورة الشباب الشعبية السلمية استدعى الوجدان الجمعي أغاني أيوب طارش لتعبَّر عن تلك اللحظات الفارقة في تأريخ اليمن، وكأنَّما كان أيوب قد كتب بياناتِ الثورة بصوته وألحانه قبل عقود وظلَّ يسهر على تعبئة شعبه بمشاعر الرفض والثورة.
 وفي منصة ساحة التغيير في صنعاء، وساحة الحرية في تعز وساحة الثورة في الحديدة، صدحتْ أغاني أيوب طارش من مُكبراتِ الصوت في الساحات الثائرة: “ الهتافات لمن بين الجموعِ/انها للشعب وحْدَه/ولمن فرحتنا ملء الربوعِ/إنها للشعب وحْدَه/ ولمن يقظتنا دون هجوع/ إنها للشعب وحْدَه/ ولمن وثبتنا دون رجوع/ إنها للشعب وحْدَه/ ولمنْ أضلعنا تحت الدروع/ إنها للشعب وحْدَه/ ولمن أكبادنا تحت الضلوع/ إنها للشعب وحْدَه /اهتفوا للشعب إنَّ الشعب جيشٌ لا يُذَلُّ/ وقفوا للشعب إنَّ الشعب أولى مَنْ يُجَلُّ/ وثقوا بالشعب إنَّ الشعب شهمٌ لا يُغَلُّ/ وادخلوا في الشعب إنَّ الشعب أفياءٌ وظلُّ/ واعملوا للشعب بالشعب؛ فما خاب سيفٌ بيد الشعب يَصِلُّ/ عاش الشعب.. عاش الشعب”.
وترددتْ أصداءُ أناشيده تبلسم جِراح الثوَّار:” وهبناكِ الدمَ الغالي وهلْ يغلى عليك دمُ؟، يطولُ شموخك الغالي وفجراً حاكه قلمُ”.
 ومَنْ يَعُدْ ليوميات الثورة الشعبية يجدْ صوتَ أيوب يحشدُ الجموعَ ويلهبُ حماسَ الجماهير، ويهيئها للتضحية، ويوحدها على حب الوطن، مُردداً: ” هاهُنا كل ضميرٍ مؤمنٍ/أنت محراب له يا وطني/ وهنا أنفسنا لن تنثني/ وهنا قاماتنا لن تنحني/ قامة منها بعزِّ اليمنِ”.
ويحضر صوت أيوب في كل الأعياد الوطنية، والأحداث التاريخية في ذاكرة اليمن المعاصر، مُغنياً للثورة والوحدة وملاحم الدفاع عن الثورة، والجمهورية اليمنية. وهو نشيد الوطن، ونشيجه منذ عقود.
 غنَّى من شعر علي بن علي صبرة، أغنية:” عودة السندباد” الشهيرة بمطلعها: “انثري الشهب حولنا يا سماء”، و أرَّخ فيها لثورة 26سبتمبر1962م، ورددَ بنغم فريد الشجو: ” عاد أيلول كالصباح جديداً/ سحقتْ في طريقه الظلماء/يبعثُ الروح في الوجود ويجري في دمانا كما يدب الشفاء/ ينشرُ الحب والسلام ويبني/ نِعْمَ بانٍ لنا ونِعْمَ البناءُ”.
 و في فلك سبتمبر عيد الثورة اليمنية، غنَّى من كلمات عثمان أبو ماهر” أنت يا أيلول فجري”، ومنها: “ يا وثوب الشعب في سبتمبرِ، اسقني عدلاً وغذي عُمري، بسلام الثائر المنتصر”.
و غنَّى من كلمات عباس الديلمي:” موكب التحرير”، ومنها:” دُمتَ يا سبتمبر التحرير يا فجر النضال، ثورةً تمضي بإيمانٍ على درب المعالي، تسحق الباغي، تدكُّ الظلم، تأتي بالمحال “. وأغنية:” البناء والصمود” ومنها: “عن طريقٍ شقه ذو يزنِ، واهمٌ مَنْ ظن أنَّا ننثني، قدري دوماً يدٌ تبني غداً، ويدٌ تحرس مجد الوطنِ”.
  ،ومن كلماتِ عبدالولي الحاج غنَّى:” سبتمبر الوضاح”، ومنها: ” أهلاً بعيد اليمن سبتمبر الوضاح، يا خالداً كالزمن ،نفديك بالأرواح، شدَّ الرحيلَ الحزن، وعمَّت الأفراح، من صعدة حتى عدن، لمَّا صباحك لاح، وغنَّى قمري تبن والبلبل الصداح، من بعد طول الحزن، صنعاء مضتْ تجتاح، عهد الأسى والمِحن، والحاكم السفاح”.
 
 وغنَّى من شعر عبدالله عبدالوهاب نعمان، أغنية: “هذه يومي” ويقول فيها : “ هذه يومي فسيروا في ضحاها/فالضحى أشرق منها واكتساها/ونسجنا شمسها ألويةً/تحتها سارت خطانا تتباهى/ وأتى الخير إلى هامتنا/ لاثِماً منَّا أنوفاً وجِباها/ واستعار المجد من قاماتنا/ قامةَ لم يعطِه طولاً سواها». و أغنية: “مواكب الزحف نحو المجد”، وأغنية:” سيدوم الخير في أرضي مقيما ” وأغنية:” يا سموات بلادي باركينا”.
 وغنَّى لملحمة الدفاع عن صنعاء عاصمة الجمهورية الوليدة بعد الثورة:” نحن رفضٌ رافضٌ إنْ مسَّنا / ظلمُ ظلاّم بعيداً أو قريبا / كم رفضنا ولبسنا رفضنا / حللاً حمراً وإصراراً عجيبا / نحن رفضٌ أبداً لكننا نعشق الحق جليلاً ومهيبا/أربعينياتُنا فيها رَفَضْنا / وضحى سبتمبرٍ فيه رَفَضْنا / ومدى السبعين يوماً قد رفضْنا/وسنمضي رافضين”.
 و للوحدة اليمنية قبل أن تصبحَ واقعاً، غنَّى من شعر الفضول وعثمان أبو ماهر. و ظلَّ يشحذ عزيمة الجماهير لتحقيق الوحدة الوطنية، وكانت أغنية:” لقاء الأحبة” من كلمات ابراهيم الحضراني أشهر أغانيه حينئذٍ، ففيها جعل الأمكنة اليمنية تحنُّ للقاء بعضها، وتتطلّع للوحدة. ورموز الأغنية اليمنية يلتقون على حدث الوحدة: “عانقي يا جبال ريمة شماريخ شمسان/ وانت يا وادي القرية تفسَّح ببيحان/ والتقى الآنسي والمرشدي و القمندان”.
 وحالما أصبحتْ الوحدة واقعاً في 22مايو1990م، كتبَ أحمد الجابري ـ مُبتهجاً بالحدث ـ أغنية:” لمن كل هذي القناديل؟”، وهي الأغنية التي صارت بيان حال عيد الوحدة اليمنية.
 وفي رحاب الوحدة جاء صوتُ أيوب شجناً مُكتنزا بدموع الفرح، ولحناً فائض اللوعة:” لمن كل هذي القناديل تضوِّي لمن؟/ وهذي المواويل بالعرس تشدو لمن؟!/ أللأرض عاد لها ذو يزن/ فعاد الزمااااان وعادتْ عدن؟”
 وفاض الوجد بأيوب فأرسل صوته إلى السحاب جياشاً بالحنين: ” أيا وحدة الشعب حلم السنين و يا قبلة الحب العاشقين! اعيدي لنا مجد أسلافنا، وشُدِّي النجوم وسيري بنا، ففي الحب نحيا ويحيا الوطن». وكلَّما عاد تساءل أيوب:” لمن، لمن؟ ” جاء صوت الكورس مُردداً:” لأجل اليمن، لأجل اليمن”.
وغناء أيوب للوطن أحد أبرز ملامح تجربته الفنية؛ بل يكاد أن يكون مفتاح كل عوالمه الفنية.
أغنية الأرض:
 امتداداً لارتباطه بوطنه تاريخاً وإنسانا، عمل أيوب في مراحل من حياته على جمع التراث الشعبي المُغَنَّى، وذهب مع رفيقه الشاعر عثمان أبو ماهر لتدوين تاريخ الشجن اليمني، في تلك الأغاني الرعوية والريفية والأغاريد والأهازيج المحلية، بما يصطلح عليه شعبيا بالمسمَّى المحلي:” المهايد” أو “المهاجل” التي تصاحب مواسم الزراعة في البذر والحصاد وجني المحصول.
 واستلهم من ذلك الموروث عدداً من الألحان والايقاعات التي استكتب لها أغاني تمجد الأرض، والفلاح، والبنّاء المعروف بالدارجة اليمنية بـ”العمَّار”، وتتغزل بالطبيعة، وتحث الإنسان اليمني على العناية بها، ومن تلك الأغاني: ” يا عنب يا عنب”، و” غردين يا طيور”، ” شُبَّابة الرعيان”.
 وقد شكَّل في هذا الاتجاه ثنائياً مُلفتاً مع “عثمان أبو ماهر” المعروف بشاعر المحراث والساقية، ومن أشهر أغانيهما، أغنية:” لحن الحقول”، المعروفة بمطلعها: ” شُنّي المطر يا سحابة”، ومن كلماتها: ” شنّي المطر يا سحابة فوق خضر الحقول، قولي لمأرب متى سدُّه يضم السيول؟ ثواب يهدي لأرض الجنتين السبول، والبيض تقطف زهور الوردبين الطلول، شني المطر فوق ودياننا، واروي تراب السعيدة لأجل أجيالنا.”
 وهذه الاغنية تلخص جزءاً من تلك الرسالة الاجتماعية التي حرص أيوب على تبليغها، كما تقول الأغنيةُ في أحد مقاطعها: ” يا فتى يا بتول، قمْ احرثْ وقول، مات عهد الخمول، بالتعاون نسود، فوق هام الوجود.”
وتمثل أغنية “شبابة الساقية“، من كلماتِ عثمان أبو ماهر اهتماماً خاصاً بالمهجل الزراعي، و من كلماتها:” يا شباب البُكَر، حان غرس الشجر، أرضي أنا يا ابتسام الحب في كل جيل، يا أرض نشوان يا تاريخ شعبي الأصيل، شواصل السير يا تاريخ سجل مسير، واكتب على صفحة الأيام حرف المصير، واشهد مع الكون فردوس الأماني الخضير، هذي بلادي.. “. وتتحدث الأغنية عن عددٍ من المحاصيل المميزة لعددٍ من المناطق اليمنيةز
وفي أغنية: ” معينة الزارع” أو “معينة الفلّاح” من كلمات أبو ماهر، يسجل أيوب إيقاع العمل في الحقل، وتبدأ بـ” مهيد ” الابتهال إلى الله طلباً للعون في العمل: ” ألا مُعين، ألا يا الله يا رازق الطير/ألا ترزق تخارج من النير/ألا معين ألا ما في المقايل لنا خير/ ولا السؤال من يد الغير»، وبإيقاعٍ مُتسارعِ يرددُ: ” ألا تعاونوا يا جماعة، تعاونوا بالزراعة، حب التراب به نِفاعة” ثم يتسارع أكثر:” بالتعاون نقوي الزراعة، بالتعاون جنب الصناعة، بالتعاون ساعة بساعة.”
 
وفي أغنية” نشوة العمَّار” يستلهمُ الشاعر أبو ماهر، عمل البنَّائين في أثناء تشييد المباني والبيوت، ويضعُ لها أيوب لحناً شعبياً، من روح المهاجل التي يرددُها العمَّارون خلال تنفيذ مخططاتهم العمرانيةز
 ويُعَدُّ الشاعر المُلحن عبد الرحمن عبدالجليل من أبرز المتعاونين مع أيوب في الكتابة والتلحين للأرض في كثيرٍ من الأغاني، ومن أشهرها رائعته:” سحرك يا أرضي فريد”، ومن كلماتها: معشوقتي، أرضي، بلادي، محرسي، جهدي،يدي، حبيتها من كل قلبي، حبها بي أبدي”، سحرك يا أرضي فريد، أنت معشوقي الوحيد.”
وفي  أغنية:” يا حاملات الشريم” للشاعر راشد محمد ثابث، دوَّن أيوب عدداً من تفاصيل الحياة في الريف وعمل المرأة في الحقول الزراعية.
 و في حب الأرض كان لأيوب مع  الشاعر الفضول أكثر من أغنية، أشهرها:” هذي عطايا تربتي”، ومنها: “هاهنا بعض عطايا تربتي، قلب أرضي لم يزل جم العطاءِ، هاهنا مازال خير الجنتين، على أرضيَ موفور النماءِ، إنها مابرحت مغدقةً، أرضنا خيراً علينا، تصنع الخير لنا أروقةً، حيثما امتدت يدينا.”
 وللتغزَّل بالمكان ومناجاته، واسترجاع سيرته وذكرياته، وتوظيف رمزيته التاريخية، وبعده الفيزيائي يمكن أنَّ نلمحَ جانباً آخر من أغاني أيوب يمكنُ تسميتها بأغنية المكان.
أغنية الغربة:
 تكاد مفردةُ الغربة أنْ تكونَ اختصار معجم المعاناة اليمني، وهي أكثر الكلمات تغلغلاً في حياة الإنسان اليمني، داخل الوطن وخارجه، وفي هذا السياق ـ  سياق علاقة الفن بالوطن ـ من خلال صوت أيوب طارش ظهر عددٌ من الأغاني المعبرة عن معاناة المغترب اليمني في المهاجر، ومواطن الاغتراب خارج الوطن، ومعاناة أهله ومحبيه في البعد عنه.
 وقد حاول أيوب أن يمَدَّ بصوته الشجي جسراً من الأشواق والذكريات بين الوطن والمواطن المغترب. أهاج وأبكى كامن المشاعر، وهو يغنَّي لبلاد النور: “و امفارق بلاد النور وعد اللقاء حان/ الوفاء للوطن يدعوك / لبي النداء الآن/ لا تغيبوا كفى غربة ولوعة واحزان/ اليمن تنتظركم يا حبايب بالأحضان/ لا تردوا الرسائل ما يطفي الورق
نار، والنقود ما تسلّي مَنْ معه بالهوى شان.”
وفضح المستتر من الحنين وهو يدندن بأغنيته: ” جنحت و اجناحي حديد لاريش”، مُهدهداً لهفة العودة:” جنحت واجناحي حديد لا ريش/ فارقت أرضي حيث أحب واعيش/ لاااأين لااأي البلاد ما ادريش! لا شيء في روحي سوى اشتياقي، للنهر للرعيان، للسواقي، ولهفتي لفرحة التلاقي.”
 ولامستْ أغنية:” ارجعْ لحولك” جُرحاً غائراً في الذاكرة اليمنية المكتظة بصور التمزِّق الأسري؛ فالأغنية إذْ تبدأ بنداء المرأة على حبيبها المغترب قائلةً:” ارجعْ لحولك، كم دعاك تسقيه/ ورد الربيع مَنْ له سواك يجنيه” ، و تنتهي الأغنية بعددٍ من التمثيلات الموجعة التي تحرضه على العودة:” في غيبتك ذيب الفلاة حايم، على المواشي والبتول نائم / وأنت على الغربة تعيش هايم/ سعيد وغيرك مبتلى بالأحزان/ ما شاش مكتوبك ولا الصدارة/ قصدي تعود حتى، حتى ولو زيارة/ قد دمعي ترّك في الخدود أمارة/ والوحدة زادت بالقليب أشجان/ غبني على عمري عمري جرى سنينه/ أما الفؤاد قد زاد به حنينه/ ليتك تعود تشفيه من أنينه/ وينجلي همي ونصلح الشان.”
وفي أغنية:” شنَّ المطر على اليمن” يأتي صوت أيوب من قرار الأنين، مُثقلاً بالأسى، متأوهاً من وجع الغربة :” ألا شَنَّ المطر على اليمن سكّاب، آآآه، ألا يا بلدي الخضراء أنا المُغرَّب، ألا طول الليالي دمعتي سكيبة، ألا أمري غريب وحالتي عجيبة، ألا قلبي حزين ونظرتي كئيبة، أوووه.”
 ولأنَّ الهجرةَ الداخلية امتدادٌ لمشاعر الاغتراب وأحزان الفراق؛ غنَّى أيوب عدداً من الأغاني المُعبِّرة عن معاناة الإنسان الذي تضطره ظروف المعيشة للسفر عن مسقط رأسه، بعيداً عن أهله، بحثاً عن فرص عمل في مدنِ ومحافظات يمنية أخرى. ومن أشهر تلك الأغاني:” بالله عليك وامسافر”، ” يوم السفر ” ، ” ساعي البريد”، “، ” نوح الطيور “، ” عليل الهوى”.
الأغنية العاطفية:
 لأيوب عددٌ وافرٌ من الأغاني العاطفية التي عبَّرتْ عن شتى أبعاد العاطفة، وتميزتْ هذه الاغاني بالتقاط معاناة العُشاق وتمّثّل مكابداتهم و مواجيدهم، بين اللقاء والهجر والوصال والبعد والعتاب والشكوى والنجوى والوفاء والنكران…الخز
 
 فجاءتْ مُفعمةً بالأحاسيس المجروحة والمشاعر النبيلة، لامستْ قلوب المحبين و ضمدَّتْ جراحهم حيناً، وأحايين أخرى هتكتْ السترَ الخفي من الأسى عن كبرياءِ الجرح.
 ولكثرة الأغاني التي يمكنُ تسميتها بالعاطفية، يصعبُ أنْ نحصيها، ومنها أغانٍ أصبحتْ كلماتها من العبارات المسكوكة التي يكثر تداولها في سياقات حياتية مختلفة، ونرى بعضها مكتوبةً على الجدران والملصقات في الأماكن العامة، وعلى المركبات ووسائل المواصلات العامة؛ لشهرة هذه الأغاني وحضورها القوي في الأذهان.
ولعلَّ في الإشارة إلى أسماء بعض تلك الأغاني أو مفتتحاتها، ما يدلُّ على شيءٍ من  مضامينها العاطفية، ومن أشهرها: ” لأجل عينك“، “هيمان”، “مكانني ظمآن”،” تليم الحب في قلبي”، “محلا هواك”، ” ضاعت الأيام ” ، “هوى الأيام”، “هات لي قلبك”، “صبر أيوب “،” طير مالك؟، ” أشكي لمن؟،” عتاب”، “يا حب يا ضوء القلوب”،” أنا مع الحب”، ” عاصي الهوى”،” هل عادك حبيب؟، ” قلبي حبيبه راح”، ” قلبي جريح”، “لك أيامي”، ” يا عاشق الليل”، “أبات الليل”، “العمر محسوب” ،” أحبك والدموع تشهد”، ” الليل والذكريات”،” يا ليتْ مَنْ وعدتْ”،” وداعة الله” ،” رحْ لك بعيد”،” ، غنِّ يا شادي”،” مطر، مطر”، “حبيت وأخلصت”،” اشكي وانوح”، “الليل و النجم”، “نجم الصباح”،” في مزهريات روحي”،” مهلنيش بين الهنا والأفراح”. وأغنية “وفاء” المشهورة بمطلعها: ” مهما يلوعني الحنين“. وغيرها، عشرات من الأغاني الملتاعة التي أثرى بها الوجدان الجمعي والتي مازالتْ حتى اليوم ترددُ من قبل الجمهور اليمني.
 وكما غنَّى أيوب لآلام الحب وأحلامه، غنَّى للفرح، وتحديداً ليلة العمرِ كما يقولُ التعبيرُ اليمني عن ليلة قران العريس بعروسته، وله في ذلك ثلاثُ أغانٍ كلَّها تُعرفُ بأغاني الزفة ـ نسبة إلى زفاف العروسة لعريسهاـ تدشين دخول القفص الذهبي.
 وقد صارتْ هذه الأغاني ضرورةَ إشهار الفرح في المجتمع اليمني، و نشيد القلوب العاشقة في مقام الوصال، وتقول كلمات إحداها: “رشوا عطور الكاذية /على العروس الغالية/ وعوَّذوها بالنبي/ وادعوا لها بالعافية/ صفوا الصفوف دقوا الدفوف/ شلوا الزفوف العالية/ زفوا وحفوا للجميل/أحلى ورود الرابية/ يكفي عريسك يا عروس/هذي العيون الساجية/ يا ليلة العمر الهني/طولي بفرحة هانية »، وكلمات الأخرى: ” باسم الله اسم الله العلي/عروسنا بين الحُلي/ اتعوذي، ألا بسملي / أمَّ العروسة وكِّلي / يا ساعة الزُهرة اقبلي/ يا شمسنا هيّا اقبلي/ مِنْ ضوءِ نورك حوّلي/ دوري وطوفي واحجري/ بنيّتي لا تغضبي/ كما الحذر أن تلعبي/ حِبيه وأهله قرِّبي/زيدي على حسنك جمال/بالعفّة والغنج الحلال/ وصيفات العروس سيرين/شباب العمر ولّى دين/ألا غنِّين معي قولين/يا صباح الرضا على مشارف بلادي/يا بكور افرحين وزيّنين النوادي.”
 
 وتقول أغنية ليلة فرحنا : ” ألاَّ طاب اللقاء طاب، و يا أحباب بعد البين، ألا والحب غلّاب، وأمره قد جمع قلبين، ألا يا رب بالحب بطول العمر هنينا، ألا يا رب، ولا تخلي الحزن يعرف ليالينا، غردين يا شموس الحسن ليلة فرحنا، زفين أحلى عريس، شلينا دانة ومغنى.”
إضافة إلى عددٍ من الأغاني المعبّرة عن فرح اللقيا مثل أغنية” وافي العهود“، وأغنية: “حبنا عطره فريد“، وأغنية دُقْ القاع”، وأغنية:” هنّوا لقلبي عند قلبي ضيوف.”
الأغنية الصوفية:
 لصوت أيوب في ذاته روحانيةٌ تتغلغلُ في مسام الأثير، وتشفُّ عن تلك الروح الصوفية المستترة في نكران الذات، حتى وهو يغني للوطن أو للمحبوبة، ولكنَّ عدداً من الأغاني ذات المضامين الصوفية أو الدينية، مثّلتْ اتجاهاً جديداً في تجربته الغنائية والموسيقية، ويمكن الاصطلاح عليها بـ”الأغنية الصوفية.”
 وأبرز هذه الأغاني من كلماتِ أحمد بن علوان أحد أبرز أعلام التصوّف: “أحباب وادي جيرون” ، ” أحباب قلبي”،” قفْ بالأطلال وبالدمن.”
.” وغنَّى لآخرين :” منتهى أملي”،: ” جلاء القلب”، ” جلالة حلمكم”،” زهرة الوصل”،”حادي المطايا”،” نظري إليك و لشهر رمضان غنَّى: ” نفحات رمضان”،” رمضان يا صائمين”،” رمضان أطلّ على الدنيا.”
وله في الابتهالات والتضرع ومدح النبي وتمجيد الزهد:” أنت العزيز”، ” نورٌ تشعشع”، ” ألا يا الله بنظرة”، ” يا مَنْ عليك التوكل” ،” لك الحمد“، ” يا جيرة الحلل”،” ولما قسى قلبي.”
في مقام الموسيقى:
 
 تمتْ الإشارةُ إلى أنَّ أيوب منذ أولَّ أغنيةٍ أشتهر بها عُرف مُلَحِنَا. وقد خصَّ صوته بألحانه، ولم يُلحن لأحدٍ غيره، ولاقتْ ألحانه القبول والشهرة. وأصبحتْ ـ وهي في العموم عزفٌ على العودـ مميزةً و ممهورةً بروحه، يعرفها السامعُ لأول وهلة.
 من الملاحظ في مقام الموسيقى أنَّ لتجربة أيوب جوانب أخرى من الابداع، تمثلتْ في قدرته على تطويعِ كلِّ ما يغنيه لصوته، فصوته هو الركن الأساسي في معادلته الفنية، وهو قائد اللحن، وسيد الأداء الموسيقي، وأبرز ما يمكن أن ندللَّ به على ذلك، ما غنّاه من كلمات تميَّزت بخصائص لَهْجية، مُغايرةً للهجته التعزية، مثل اللهجة التهامية.
 فقد كان غناؤه مستوعباً لبعض خصائص اللهْجة، وهو ما استظهره في التعبير الصوتي؛ لكنَّ اللحن ظلَّ رهينة صوت أيوب ومزاجه، ولنا أنْ نسمعَ أغنية:” وازخم، وازخم” لعثمان أبو ماهر، وأغنيتي:” عليل الهوى” التي اشتهرت بمطلعها:” واطائر امغرب”، و “كاذي شباط” للشاعر علي عبدالرحمن جحاف.
وأغنية: ” قولوا لأهل امعتب واملامة” من كلمات الفضول الذي استهوته اللهجة التهامية، فخصَّها بتلك الكلمات التي جاءتْ موفورةَ العاطفة والبناء على طريقة الفضول الشعرية.
“وحتى الألحان التي أخذها أيوب عن غيره أضاف إليها بأدائه مسحةً الصوت الأيوبي، مثل ألحان:” الحب والبن منى الخاطر” ، ” وأحبك والدموع تشهد”، ” سامحني وانا باتوب”.
وكذلك الألحان  التي أخذها من التراث مثل: ” وامغرد بوادي الدور”،” يا بروحي من الغيد”،” أسكان الحمى! ، ” مسكين يا ناس”،” يا من هواه أعزه وأذلني” ،” يا شاري البرق” و” لمه لمه؟ “، ” قال الذي قد هام”، ” السعيد الذي ما عرف كيف الهوى “،” خدعوها بقولهم حسناء”، و” وامعلق بحبل الحب”، وغيرها.
 وربما يتسقُ مع ذلك أن نلحظَ الأمر ذاته في بعض أغانيه التي أخضعها للتوزيع الموسيقي، وتخلّى لها عن العود، مثل أغنية:” جوّال” وأغنية:” و امفارق بلاد النور” وأغنية:” باعدوا من طريقنا ” وأغنية :” عِشْ حياتك”، وأغنية:” قسمة ونصيب”، “يا حاملات الشريم”.
وخلاصة القولِ في ذلك أنَّ خصوصية صوت أيوب طارش صنعتْ كلَّ ما يستهوينا في أغانيه. ومكّنَتْ له من بسط سلطته الروحية على القلبِ والمخيلة.
 وقد جَسَّد في صوته الشجن اليمني، ووحَّد به مشاعر اليمنيين في الداخل والخارج، حتى كأنَّ هذا الصوت جغرافيا الروح.
ومن العجيب أنَّ الشجنَ الذي يكتنزُ به صوت أيوب، لم يستطعْ أنْ يطغى على الفرح في قلوب سامعيه؛ فأيوب طارش عنوان البهجة الدائمة.
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى