فكر وثقافة

رواية «وحي» لحبيب عبد الربّ سروري: خطاب الاستنهاض العربي التنويري

في عنوان الرواية، يضعنا الكاتب أمام محاولة تأويل خطاب الراوي الذي أراد لنا، بتقنية سرديّة، خلق تفسير موازٍ لكلمة وحي، عبر تأمّلات عن ماهيّة الوحي في الحياة الإنسانية، تترجّح بين «هلوسة أو إيمان غيبي أوشعلة إلهام وشرارة تجلٍّ، نتيجة تفاعل كهروكيميائي في عصبونات الدماغ».

يمن مونيتور/القدس العربي

■ خطاب الاستنهاض العربي التنويري في رواية وحي لحبيب عبد الربّ سروري
رواية «وحي» لحبيب عبد الربّ سروري، (الأستاذ في علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي، الفرنسي من أصول يمنيّة، وهي روايته التاسعة، ضمن مشروعه التنويري)، الفائزة بجائزة كتارا لهذا العام، الصادرة عن دار الساقي، 2018، في بيروت، تمثّل رؤية العربي المستنير في قابليّته الذهنية على الانفتاح على حضارات العالم كافّة، والاقتراب إلى حيّز الإلحاد أو التديّن، من باب عدم الإدانة والتجريح لكليهما، لأنّه حيّز يتعلّق بالحريّة الفردية. وفي ظنّي، أنّ الكاتب يرفض إعادة إنتاج الوعي السائد روائيًّا، بأنّ العربي كائن منغلق على ذاته، توقّف عنده البحث الديني عند الغزالي في الوقوف بجانب الوحي، إذا تعارض مع العلم. خطاب الكاتب هو خطاب الاستنارة الآخذة من الكونفوشيوسيين والبوذيين والداروينيين والنيتشويين والحلاجين وأصدقاء المعري ورامبو، ما يجدّد حياتهم ويطوّرها، ويجعلها أكثر سعادة وبهاء وقناعة، من دون خوف من عالم آخر تتعالى فيه أصوات «أخلاق الحسنات والسيّئات» النفعية.
في عنوان الرواية، يضعنا الكاتب أمام محاولة تأويل خطاب الراوي الذي أراد لنا، بتقنية سرديّة، خلق تفسير موازٍ لكلمة وحي، عبر تأمّلات عن ماهيّة الوحي في الحياة الإنسانية، تترجّح بين «هلوسة أو إيمان غيبي أوشعلة إلهام وشرارة تجلٍّ، نتيجة تفاعل كهروكيميائي في عصبونات الدماغ».
جماليّة الأسئلة والإجابات، اتّخذت لها إطار الإيميل بين خطابين متقابلين، لدورين متكاملين، متناقضين، السماء، دور العطاء، في مقابل الأرض، أي دور التلقّي. جسور بين عالمين، ميتافيزيقي، وحسّي، عبر الوحي. السؤال روائيّا هنا، هو كيفيّة التلقّي، ووظيفة التلقّي، والخلفيّة الذهنيّة لهذا التلقّي الذي لا يميّز بين الميثولوجي والتاريخي.
كيف عبّر حبيب سروري روائيا عن عالم لا يتغيّر قبائليًّا وأسطوريًا؟ في مقابل عالم بات يقترب من الوصول إلى «هومو زوس»؟
عبّر الراوي عن مشروعه بخطاب تنويري هو مشروع الكاتب، خطاب استنهاض للأمّة العربية من كهوف ظلاميتها، بعيدًا من الوعظيّة، من دون أن يكون لديه تعارض فكري مع الإيمان. وقد جاء خطابه على مستويين، حين كان يقرأ تاريخه وذكرياته، معريًّا نفسه، هو خطاب تمسّك «بإنقاذ الله» متحدّيًا كّل من كان في اجتماعات الحزب الماركسي اللينيني ورئيسه، على الرغم من صدمته في التلاعب بمشاعر الناس، باسم الدين،(حادثة جامع العيدروس)، وحين أصبح ناضجًا، بعد سفره إلى أوروبا، بقي مشدّدًا على محاربة «الدنمتة»، فلم يأخذ من نيتشه فكرة موت الإله، بل أخذ منه حبّ الحياة وعيشها، ومن فكرة العود الأبدي تكرارها، وهو ما يعيشه بانسجام فكري مع زوجته شهد.
لقد قرأ الراوي العربي المستنير خطاب المفكرين الغربيين، كداروين، التزام ميثاق العلاقة بين العلم والدين، وليس دعوة الى الإلحاد، ويمكن لنا أن نقرأ الفصول المتعلقة بغلاباغوس من باب التركيز على الفكر التطوّري في خطاب الراوي، ومن جملة الآراء في التكيّف: مقولة التحوّل العام الذي حصل منذ عهد السحر la magie، إلى زمن الأديان ومنه إلى عصر العلم، واعتبار كلّ من السحر والدين والعلم طرقين مختلفتين للتعامل مع العالم الوجود، على قاعدة أنماط مختلفة من المعرفة»، إلّا أنّ الراوي، جعلهما متقابلين، المسيرة التطورية في هيمنة أحكام العلوم، في مقابل ما يحلّ في اليمن من التماهي مع الأساطير الدينية وقتل الأبناء أضاحي للإله. وربّما يحاول الراوي في إطار تحليل الواقع التاريخي المعقّد، أن يضيء على الحاجة الماسّة إلى ضروة الكشف عن كيفية العمل بجدّ عن المسارات التطوريّة، ولو كان من باب التبيئة. من هذا الباب، قد يحيلنا خطاب الراوي إلى أوغست كونت الذي يعتبر أنّ المجتمع المعاصر» يتّسم بأزمة سياسيّة وأخلاقيّة كبرى، وأنّ هذه الأزمة تعود إلى الفوضويّة الفكريّة الناتجة لا عن تتابع، بل عن تعايش، co exsistance”»، وبما أنّ العولمة اليوم هدّمت الأسوار التي بنتها الجغرافيا، صار لزامًا على التاريخ الإنساني تسجيل الانتقال إلى الأفضل ليتمّ التكيّف مع العالم الجديد.
 
جعل حبيب عبد الرب سروري قبول الآخر واجبًا مدنيّا كذلك رفض النسف الراديكالي الذي يأتي في خطاب الراوي من باب وظيفته التأويليّة، كوسيط قولي بين العقلانية والواقع، فنسف الإيمان أو نسف الوحي، ليس هو الغاية.
فنرى الراواي ينطلق في قراءة الواقع من «المسلّمات الأساسيّة التي تعتمد عليها النظريّة التطوريّة هي: التغيير شيء طبيعي. التغيير له وجهة أحادية في أوروبا الغربية، التغيير داخلي المنشأ»، فينتقل من غلاباغوس والمسيرة العلميّة التطوريّة هناك، واسم داروين في كلّ مكان وشارع و نزل ومطعم ووو، وما تشهده البلاد العربيّة، وخطاب وحي من عالم افتراضي لا يعرف أحد مصيره. لماذا شهدت أوروبا هذه التغييرات في مسيرتها، في حين أنّ البلاد قابعة في انغلاقها على نصوصها الدينية والأسطوريّة؟!
وقرأ الراوي نيتشه إيمان الإنسان بقدرته على التفوّق على نفسه استنهاضًا، وتقاربًا
فكريًّا مع بوذا في مقولة الذات مصباح الإنسان. أمّا ربط نيتشه بداروين في خطاب الرواي الذي قام بوظيفة التأويل هنا في ربط هذه المسيرة التطورية بالتاريخ، فيعود ذلك ربّما إلى «أنّ رؤية نيتشه للتاريخ في مواجهة مرض الإفراط في التاريخ، جعله يضع علاجًا يسمّيه العلم «سموم»، «مضادّات التاريخ» وهي القوّة اللاتاريخيّة والقوى فائقة ـ التاريخ» يدلّ لفظة قوة لاتاريخيّة بالنسبة إلى نيتشه فنّ وملكة النسيان والانغلاق في أفق محدود، بينما القوى الفائقة التاريخيّة هي تلك القوى التي تحيل النظر عن الصيرورة وتوجّهه نحو ما يعطي الوجود طابع الأبديّة والاستقرار، نحو الفنّ والدين».
إذا نحن أمام خطاب تنويري، يستقي من الفكر الغربي مقوّمات استنهاضه، وليس كما يسوّق له عربيًّا بأنه فكر يحارب الدين. مؤمنا أنّ «ديمومةُ تقوقعنا ليست قَدراً مفروغاً منه»، فجاءت الأفكار النيتشوية في خطاب الراوي ركنًا أساسيًّا من بنية السرد القائمة، من أجل الإضاءة على أهميّة العلم الذي «يسعى إلى إلغاء كلّ ما يحدّ أفق الإنسان ليضعه في حضن الصيرورة وإمكانات الترقّي.
وضمن الخطّة الاستنهاضية للراوي، جعل حبيب عبد الرب سروري قبول الآخر واجبًا مدنيّا كذلك رفض النسف الراديكالي الذي يأتي في خطاب الراوي من باب وظيفته التأويليّة، كوسيط قولي بين العقلانية والواقع، فنسف الإيمان أو نسف الوحي، ليس هو الغاية. الغاية هي إعادة بناء الواقع وفق القيم التنويريّة التي تؤمن بقدرة العقل والعلم على تحويل مسار الحياة، نحو أرقى مسالكها. مع التبشير بالابتعاد عن الأخلاق النفعيّة، واتأسيس لأخلاق الإنسان الحرّ الأعلى، أخلاق مجتمع المدنية والقانون، ليعود في خطابه إلى مساءلة باسكال وأبي العلاء، على إيقاع «حتى أنت يا بروتوس» أيّ، حتى أنت يا أبا العلاء، مشدّدًا على ضرورة الإيمان بالفعل من أجل لحظته الراهنة، اقتناعًا وانسجامًا، لا خوفًا بجحيم أو طمعًا بنعيم.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى