كتابات خاصة

حقيقة يوم 14

حسن عبدالوارث

إن تاريخ الثورات ليس انجيلاً مقدساً، اذْ يجب أن تُعيد الشعوب الحية نظرتها النقدية والتحليلية لتاريخها السياسي والوطني -وتاريخ ثوراتها بالذات- بغرض التنقيح والتصويب والتقويم. فالشوائب والنوائب تزدحم بين السطور وفي تلافيف الوعي الجمعي والوجدان العام.

 في 14 أكتوبر 1963 كان الشيخ راجح بن غالب لبوزة ومجموعة من أتباعه المنتمين لقبائل ردفان في طريق عودتهم إلى قُراهم بعد مشاركتهم في معارك الدفاع عن الثورة والجمهورية في بعض مناطق شمال اليمن. وكان لبوزة ورجاله مطلوبين من قبل سلطات الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن، طبقاً لقانون يعاقب كل من يشارك في قوام أو مهام أيّ جيش “أجنبي” بسجنه لثلاث سنوات وتغريمه عشرة آلاف شلن.
في ذلك اليوم كمنت قوة بريطانية مسلحة للشيخ لبوزة ورفاقه، تنفيذاً لذلك العقاب، خصوصاً بعد أن كان ردّ لبوزة على تلك التهمة شجاعاً ولاذعاً، اِذْ بعث بعيار ناري في مظروف ورقي إلى ممثل الاحتلال رداً لا يخطئه لبيب. وحينها أشتعل أُوار معركة بين الطرفين سقط فيها عدد من رجال القبائل الثائرين بينهم الشيخ لبوزة نفسه.
على اِثر ذلك “تَبنَّت” الجبهة القومية هذا الحدث لتجعل منه تدشيناً للثورة الوطنية المسلحة ضد الاحتلال البريطاني، وبالتالي فقد وثَّق التاريخ السياسي والوطني اليمني هذا اليوم في هذا الاطار وعلى هذا المنحى.
وبالرغم من أن الجبهة القومية تشكَّلت في 2 أغسطس 1963 إلاَّ أنها وحتى يوم 14 أكتوبر من العام نفسه لم تكن قد خطَّطت لقيام الثورة بأيّ شكل من الأشكال، فجاءت معركة لبوزة فتحاً للجبهة كي تحتسبها ايذاناً بالثورة، خصوصاً أن الشيخ راجح كان على صلة وثيقة بالجبهة وقيادتها كما يشير أرشيف الجبهة.
غير أن الجبهة القومية لم تعلن برنامج أهداف الثورة إلاَّ يوم 19 مايو 1965، في منشور سياسي بهذا الخصوص كتبه عبدالفتاح اسماعيل “عمر”. ولكن حين وردت الاشارة في هذا المنشور الى أن قيام الثورة في 14 أكتوبر 1963 كان قراراً نابعاً من ارادة قيادة الجبهة القومية، لم يكن هذا القول صحيحاً، للسبب آنف الذكر.
كما أن برنامج أهداف الثورة لم يتبلور نظرياً وتنظيمياً إلاَّ بعد مناقشته واغنائه والمصادقة عليه من قبل المؤتمر العام الأول للجبهة القومية. ثم أن الثورة -بنطاقها الشعبي الواسع وباطارها التنظيمي والفدائي المعروف- لم تظهر إلاَّ في أواخر العام 1965، حيث تواجدت حينها 12 جبهة فدائية في مناطق مختلفة تحت قيادة الجبهة القومية، كانت أكبرها وأنشطها جبهة عدن، اِذْ لم يعترف الاحتلال ولا الرأي العام الدولي بوجود ثورة في جنوب اليمن (أو الجنوب العربي، حسب التسمية السائدة آنذاك) إلاَّ بعد أن أشتعلت جبهة عدن، فسقطت في هذه المدينة عشرات الجثث لانكليز وهنود ويمنيين وجنسيات أخرى ممن يتعاملون مع سلطات الاحتلال بالضدّ من مصلحة الشعب، وكذا بعد سقوط عدد من الشهداء والجرحى من فدائيي الجبهة في عمليات كان لبعضها دويّ هائل في الدوائر السياسية والأمنية والاعلامية المختلفة.

الحق أنه لا ينبغي في هذا السياق التاريخي اغفال بعض العمليات الفدائية التي نُفِّذت خارج سلطة الجبهة القومية كمثال عملية تفجير قنبلة مطار عدن الشهيرة التي نفَّذها خليفة عبدالله حسن خليفة يوم 10 ديسمبر 1963 وأسفرت عن اصابة المندوب السامي البريطاني في عدن السير كنيدي تريفاسكس ومصرع نائبه القائد جورج هندرسن، بالاضافة إلى اصابة عدد من المسؤولين الانكليز واليمنيين الذين كانوا يستعدون للاقلاع إلى لندن لحضور مؤتمر يهدف الى ابرام اتفاق سياسي بين سلطات الاحتلال والحكومة المحلية العميلة، يحفظ مصالح استراتيجية لبريطانيا في عدن.
كما أن التاريخ المُنصِف لثورة الجنوب لا يكتمل شهادةً من دون التنويه البارز بالدور الكفاحي لعدد من الفصائل السياسية والتكوينات الفدائية الأخرى كمثال جبهة التحرير والتنظيم الشعبي وغيرهما، بالرغم من أن السلطة الجديدة -أو دولة الاستقلال- دانت للجبهة القومية جراء انتصارها الكاسح عسكرياً في الحرب الأهلية التي أندلعت عشية الاستقلال، عدا انضمام عدد من القوات المسلحة في الجيش والأمن التي كانت خاضعة للاحتلال الى صف الجبهة القومية قبيل موعد الاستقلال، ما جعل الجبهة القومية الطرف المؤهل لاستلام زمام الأمور من سلطة الاحتلال عبر وفدها في مفاوضات جنيف.
إن تاريخ الثورات ليس انجيلاً مقدساً، اذْ يجب أن تُعيد الشعوب الحية نظرتها النقدية والتحليلية لتاريخها السياسي والوطني -وتاريخ ثوراتها بالذات- بغرض التنقيح والتصويب والتقويم. فالشوائب والنوائب تزدحم بين السطور وفي تلافيف الوعي الجمعي والوجدان العام.
————–
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 
  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى