كتابات خاصة

الحُجرية والجنوب المُحتل

بلال الطيب

عدن هي الأقرب جُغرافياً ووجدانياً لتعز عدن هي الأقرب جُغرافياً ووجدانياً لتعز، نَجدها حاضرة وبقوة في ماضيها، وفي تاريخ أبناء الحُجرية بالذات، وموروثهم المُثقل بالاغتراب والمعاناة، انقادت إليها خُطاهم بلا توقف، واستقبلتهم بلا عراقيل، واحتكوا بثقافتها، وتأثروا بها، وأثروا فيها، وأسسوا في حواريها أنديتهم الاجتماعية القروية، كنادي «الاتحاد الأغبري»، و«التعاون العريقي»، و«النادي العبسي»، و«النادي الذبحاني»، وغيرها الكثير.

شكل بعد ذلك انتقال الثائران محمد محمود الزبيري وأحمد محمد النعمان إلى الجنوب مُنعطفاً هاماً في تاريخ الحركة الوطنية «يونيو 1944م»، استضافهما القائمون على تلك الأندية، لتبدأ من عدن المُعارضة الفعلية لحكم الأئمة بقيام «حزب الأحرار الدستوريين»، ونشرت صحيفة «فتاة الجزيرة» ذلك النبأ، وعلقت: «لقيت هذه الخطوة ترحيباً وحماساً وتأييداً من المُستنيرين اليمنيين، من أبناء الشمال والجنوب على حدٍ سواء».
في كتابه «الحركة الوطنية في اليمن»، تحدث محمد أحمد نعمان عن شيوع النبرات الانفصالية في الجنوب بعد فشل ثورة «فبراير 1948م» في الشمال، وأكد أنَّ عدن – حيث كان يُقيم – لم تعد كما كانت؛ تصدرت صحيفة «الجنوب العربي» الهجوم على «الاتحاد اليمني» الاسم الجديد لتنظيم الأحرار اليمنيين، وتحالفت «رابطة أبناء الجنوب» – التي تصدر عنها ذات الصحيفة – مع «طلائع الشيوعيين» برئاسة عبدالله باذيب المُساند لحكم الإمامة، والذي لم يتوقف يوماً عن مُهاجمة الأحرار، ليقوم الأخير حين بدأ الأحرار بالترويج للجمهورية في أدبياتهم بالتصدي لهم بكل فضاضة.
انكشفت مواقف ذلك الحزب المُخزية أكثر حين سمح الاحتلال بإجراء انتخابات للمجلس التشريعي، وقرر مَنع الشماليين من المشاركة فيها، وهو ما رفضته كافة القوى الوطنية – باستثناء حزب «الرابطة» – الأمر الذي أدى إلى انسحاب المئات من أعضائه، لينظموا ويشكلوا أحزاب جديدة أكثر قدرة على التعبير عن تطلعات الجماهير.
كما ظهرت خلال تلك الفترة جمعيات وأحزاب تمثل مصالح فئوية وقبلية ضيقة، مِثل «الجمعية العدنية» التي أسستها عدد من الأسر الأرستقراطية، والتي ارتبطت مصالحها بمصالح الإنجليز، رفعت عام تأسيسها «1950م» شعار «عدن للعدنيين»، لتُغير بعد أربعة أعوام اسمها إلى حزب «المؤتمر الشعبي العام»، فيما ظلت شعاراتها الانفصالية كما هي.
بدأت الشعارات الانفصالية بعد قيام ثورة «23 يوليو 1952م» بالانحسار، جذبت الثورة المصرية الأحرار إليها، وكان لأثير إذاعة «صوت العرب» عظيم الأثر في إنعاش الروح القومية، الهبت شعاراتها حماس الجماهير، لتتجسد على وقعها واحدية النضال اليمني، وتركز العمل حينها على «التحرر من الاحتلال البريطاني، والاستبداد الإمامي، وتحقيق الوحدة اليمنية».
 وفي «نوفمبر 1955م» تشكلت في عدن «الجبهة الوطنية المتحدة»، وذلك من عددٍ من الهيئات التعاونية والنقابية، والنوادي الرياضية، بما في ذلك «الاتحاد اليمني» الذي لعبت بعض عناصره المثقفة أدواراً بارزة في عملية خلق تلك الجبهة، أمثال: محمد عبده نعمان الحكيمي، وعبدالرزاق باذيب، وكانت تدعو – كما أشار برنامجها – إلى تحقيق وحدة اليمن على أساس شعبي، بحيث تتخذ شكل جمهورية ديمقراطية مُستقلة.
وعلى ذات المنوال دعا «المؤتمر العمالي» الذي تشكل إثر اضرابات «مارس 1957م» إلى تحقيق الوحدة اليمنية على أنقاض الاستعمار والرجعية اليمنية، وكامتداد لذلك المؤتمر أتى «حزب الشعب الاشتراكي»، وأشار هو الآخر في برنامجه إلى أنَّه يسعى إلى إقامة حكم جمهوري ديمقراطي شعبي بعد التحرر من الاستعمار، والإمامة، والإقطاع.
أتت بعد ذلك ثورة «26 سبتمبر 1962م»، وقد حددت منذ اللحظة الأولى لانطلاقها حقيقة توجهها الوطني كثورة شاملة لا تعترف بالحدود الشطرية، وعبرت عن خطها الوطني المُعلن صبيحة ذلك اليوم، كما جاء ضمن أهدافها الستة أو في بيانها إلى الشعب اليمني على اعتبار أنَّه «شعب واحد يؤمن بالله، وبأنه جزء من الأمة العربية».
عبر الشعب اليمني حينها عن فرحته بتلك الثورة، وفي شوارع عدن خرجت الجماهير مُحتفية، وبدأت طلائع المُتطوعين الجنوبيين تتجه شمالاً، ليقوموا بإعادة تنظيم أنفسهم في إطار سياسي يُمثلهم أمام القيادة الشمالية، مُشكلين النواة الأولى لحركة التحرر الجنوبية، أسسوا «جبهة تحرير الجنوب اليمني المُحتل»، وكتبوا على صدر ميثاقها شعار: «من أجل التحرر، والوحدة، والعدالة الاجتماعية».
في الأسبوع الأول من «يوليو 1963م»، عقد في قرية «حارات» ناحية «الأعبوس» اجتماع تشاوري لعدد من أعضاء «حركة القوميين العرب»، حضره: قحطان الشعبي، وفيصل عبد اللطيف، وسلطان أحمد عمر، وعلي السلامي، وطه مقبل، وسالم زين، وآخرون، وتم فيه الاتفاق على توسيع دائرة التحالفات الجنوبية على قاعدة الكفاح المسلح، وذكر سلطان أحمد عمر أنَّ قيادة الحركة اتخذت في ذلك الاجتماع عدة خطوات حاسمة، أهمها الإعداد للثورة، واختيار جبال ردفان لتفجيرها، لأسباب عدها استراتيجية، وهذا يعني أن ساعة الصفر حُددت مُسبقاً، ومن جبال الحُجرية.
 
توجه بعد ذلك عدد من الثوار الجنوبيين إلى مدينة تعز، وشكلوا قيادة لتنظيم التعاون مع المُخابرات المصرية للإعداد للثورة، وفتحوا مكتباً لها، ونشروا «الميثاق القومي» و«بيان مارس» كما أقر، ولم يغير فيه سوى اسم جبهة التحرير إلى «الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل»، وتم إعادة نشرهما في صحيفة الثورة التي كانت تصدر حينها من ذات المدينة.
عقد في مدينة تعز اجتماع كبير ضم غالبية ثوار الجنوب الفاعلين «أغسطس 1963م»، أخذت الجبهة فيه تسميتها الجديدة، وقد اندمجت فيها وتبنت خيارها سبعة تنظيمات سرية، وهي: «حركة القوميين العرب، والجبهة الناصرية في الجنوب المحتل، والمنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، والجبهة الوطنية، والتشكيل السري للضباط والجنود والأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية»، كما التحقت بها ثلاثة تنظيمات أخرى، وهي: «منظمة الطلائع الثورية بعدن، ومنظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب جنوب اليمن المحتل».
عُقد اجتماع تعز المُوسع بالتزامن مع عودة الشيخ راجح لبوزة وأصحابه إلى ردفان، لتنفجر بعودة الأخير واستشهاده شرارة ثورة «14 أكتوبر 1963م»، صحيح أنَّ ذلك اليوم لم يكن قد حُدد مُسبقاً، إلا أن تفجير الثورة كان قد تم الاتفاق عليه، وهذا ما أكده المُناضل ناصر السقاف الذي كان حينها نائباً لقحطان الشعبي بقوله: «عاد راجح بن غالب لبوزة من الجبهة – جبهات الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر – ومعه مائة مقاتل، وقد سمع بقانون حكومة الاتحاد، وبعد التشاور مع القيادة والحكومة من شماليين وجنوبيين أعلن أنّه سيعود وسيقاوم إذا تطلب الأمر ذلك..».
إمكانيات ثوار ردفان كانت حينها ضئيلة جداً، ولذات السبب توجهت مجموعة منهم برئاسة بليل راجح لبوزة إلى إب، وتعز، ثم صنعاء طلباً للدعم والمساندة، وكان أول دعم يتلقونه عبارة عن ذخائر وألغام، وقد تم نقلها على الأكتاف إلى مقر قيادتهم، وقد عمل «بليل» بعد عودته من الشمال على إكمال مهمة أبيه، نجح في لم شمل القبائل المُتصارعة، بمساعدة مائزة من قبل بعض المشايخ، وهكذا صار أبناء ردفان يداً واحدة في مواجهة الإنجليز وأذنابهم.
زار الرئيس جمال عبد الناصر اليمن «إبريل 1964م»، وألقى من مدينة تعز خطاباً حماسياً، عُدَّ نقطة تحول فارقة في تاريخ اليمن المعاصر، وكان الشرارة التي أشعلت حرب التحرير الشاملة، انطلقت بموجبه عملية «صلاح الدين» الذائعة الصيت، وكانت تعز مقرها، وقد شكلت ذات المدينة وقرينتها قعطبة ملاذاً آمناً لثوار الجنوب، وكانتا بحق مركز دعمهم، ونقطة انطلاقهم، حتى تحقق الاستقلال.
————–
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى