فكر وثقافة

البردوني في عزلته حياً وميتاً

صدام الزيدي

قبل 20 عاماً، غيّب الموت الشاعر والمفكر اليمني عبد الله البردوني، في مستشفى بالأردن حيث كان يخضع للعلاج هناك.

قبل 20 عاماً، غيّب الموت الشاعر والمفكر اليمني عبد الله البردوني، في مستشفى بالأردن حيث كان يخضع للعلاج هناك.

لكن المؤسف أنه بعد عقدين كاملين على رحيل شاعر كبير بحجم البردوني، ما زالت مخطوطاته الشعرية حبيسة الأدراج (بسبب خلاف عائلي بين أقربائه/ ورثته)، كما أن مطالب أدباء اليمن بتحويل بيته في صنعاء إلى متحف يحمل اسمه، تبدو كأمنية طالها غبار النسيان.
ديوانان مخطوطان
هناك ديوانان مخطوطان ما زالا لدى ورثة عبد الله البردوني، هما “العشق على مرافئ القمر” و”رحلة ابن من شاب قرناها”، بحسب إفادة الشاعر محمد القعود، رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين- فرع صنعاء، وأحد جلساء البردوني على مدى سنوات، وواحد من قلائل ما زالوا يتذكّرونه، كلما حلّت ذكرى سنوية جديدة لرحيله.
يواصل محمد القعود (رئيس منتدى البردوني بصنعاء)، في صفحته على فيسبوك، نشر قصائد للبردوني وقراءات بصوته وحوارات أجريت معه وقصائد بأصوات محبيه وصور متفرقة لـ(آخر الكلاسيكيين الكبار)، الذي لا يتكرر ولا يمكن نسيانه في ذاكرة الشعر العربي الحديث.
وباستثناء جهود فردية، دراسات نقدية وأطروحات ورسائل علمية (ماجستير ودكتوراه) تم إنجازها عربياً، تناولت البردوني شاعراً ومفكراً، يكاد القارئ العربي (واليمني أيضا) لا يجد ما يقرأه من شعره في مطبوعات جديدة من الكتب والإصدارات، عدا طبعات قديمة لا تكفي للانتشار كما يجب، كما أن القارئ العالمي هو الآخر قد لا يعرف شيئاً عن البردوني لندرة ما تُرجِم من شعره، وكأنّ الظلم والتهميش اللذين رافقاه في أوج مسيرته، وتعمُّد نظام علي عبد الله صالح أن يقصيه، كما يشير البعض (بينما آخرون قالوا إن كتباً للبردوني صدرت عن المؤسسة الثقافية الرسمية اليمنية في تلك الحقبة الطويلة البائسة) هي قدره، حتى بعد وفاته!
قصيدة مدويّة!
لا يرى الشاعر والناقد العراقي حاتم الصكر (الذي أقام باليمن لسنوات أستاذا للأدب والنقد بجامعة صنعاء) أن البردوني “كان يعاني من ظلم في ما يخص إبداعه الشعري”. ويعتقد أن البردوني ربما ناله الغبن شخصاً مسمى متواطئاً مع تلك العزلة (التي عاشها)، لكنه من خلال نصوصه ينتصر على تهميشه.
وقال الصكر إن البردوني أخذ مداه اليمني والعربي. فلم يقترب من سلطة أو حزب أو جماعة، لكنه ضمن قُرّاءه وجمهوره والمنفذ الذي ينسرب منه شعره بسلاسة ويسر. وقصيدته نالت نصيبها من العرفان على مستوى القراءة أكاديمياً ونقدياً وجماهيرياً، ومن خلال نصوصه يتسلح البردوني بذخيرة كتابةٍ لا يزيل الزمن أثرها.
غير أن الصكر يلفت الانتباه إلى أن لعزلة البردوني عدوى تنفذ إلى قراءته: “للبردوني منزلة خاصة في مقام القراءة، لا تربطه بفكر جاهز ولا تيار فني محدد. كما أن سخريته وعمق رؤيته وتقاطعه مع السلطة والأنظمة وشجبه للظلم وانتصاره للفقراء والمهمشين جعلت قراءته ذات منهج موازٍ يلتقي بأفق الكتابة ويعزز الرؤية ويدعمها”.
في العزلة
ويرى الصكر أن عزلة البردوني وزهده ما هما إلا جزء من رؤيته للحياة من حوله: “اعتزل البردوني عالمنا حياً قبل أن يعتزله مطمئناً في قبره، وزهده البالغ جزء من رؤيته للحياة والعالم والشعر. إنها رؤية متقدمة تقترب من الحداثة التي ظل على إيمان بها رغم حفاظه على شكل القصيدة التقليدي أي المحافظ على تقاليد فنية مستقرة ومتداولة. حتى عماه لم يكن يمثل له إلا حاجزاً عن عالم لم يرد أن يكون أحد شهوده المزورين”.
ويستدرك الصكر: “هكذا أصر البردوني أن يعلن بصره الكفيف بلا نظارات تحجبه عن ناظريه. ولم يغْره بهرج الضوء الذي يغطي عالم المبصرين، وسخر من ضيائهم في ديوان أسماه (رواغ المصابيح)ِ. وهو لا يرى في الخارج (نوراً) بل (ضياء)، كثيراً ما سخر منه وشبَّهه بالظلام.. يسبح في عتمته المبصرون دون أن يروا (ظلام الضياء) كما يقول في إحدى قصائده… وهكذا ردَّ لهم ظلامهم الذي يفوق عتمة عماه مذكراً بشقيق محنته أبي العلاء المعري الذي يرى الناس في ظلام دامس و(قد حُجب النور والضياء) كما يقول، وغدا المنجّم أعمى يقرأ الصحائف باللمس.. هذا ظلام يفيض ويصطدم فيه الناس ببعضهم.. فتصاغر العمى في البصر لأنه أهون من عماء يغرقون فيه”.
ومختتماً حديثه لـ”ضفة ثالثة” قال الناقد الصكر: “البردوني مكتف بفعل رؤية تتجاوز النظر الهش، فعلٌ لخَّصه بقوله (يرى بالسمع قلبُ الكفيف) أي عبر صلة قلبية خاصة؛ فكان رائياً يتجاوز الخارج بشراً وأمكنةً ومؤسسات. وظل (يصوغ من دمه العبارة) كما يقول”.
تقصيرٌ يمني
من جهته، قال الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف إن ثمة تقصيراً ونكراناً من اليمنيين أنفسهم أولاً للشاعر البردوني، والتقصير أيضا من مؤسسات اليمن، من الدولة التي كانت لا ترتاح لمواقف البردوني، وما قاله عن اليمن في شعره.
لكن بوسريف يرى أن وجود وسائل الاتصال الحديثة، اليوم، هو أحد وسائل التعريف به، وتعميم شعره، وما كتب عنه من دراسات، بل وجمع كل هذا في موسوعة خاصة عنه، وهذا ما يمكن أن يجعل من حضوره يثير الانتباه إلى تجربته التي ظلت بعيدة حتى عن الشعراء.
ويتابع بوسريف لـ”ضفة ثالثة”: “كتبت عن البردوني، واعتبرته إلى جانب الجواهري، وبدوي الجبل، والأخطل الصغير، بين أهم من كانوا بيننا ممن هم امتداد إبداعي للماضي (القصيدة)”، مشيراً إلى أن البردوني، مثل الجواهري، كان من الطبيعي أن تتنكر له المؤسسات الثقافية والتعليمية، بما فيها الجامعة، لأنه لم يصل إليها، مثلا، بنفس الحضور الذي وصل به الجواهري، الذي طبعت أعماله الشعرية أكثر من مرة، وفي دور نشر توزع في العالم العربي، ناهيك عن الدراسات النقدية، والأطروحات الجامعية التي درست تجربته، وعرفت بما فيها من تميز وخصوصية.
ويشير بوسريف إلى أن أعمال البردوني التي طبعت، لم تصل إلى العالم العربي، لا يعرفها القراء، وطبعة دار العودة كانت منذ مدة، وهي لا تكفي، فشعر البردوني، باستثناء اليمن، وبعض الدول العربية القليلة، يكاد يكون غير معروف، إلا كاسم. وهذا تقصير من اليمنيين أنفسهم.
السقّاء الذي أصبح شاعراً
في مسقط رأسه “بردون” بمحافظة ذمار (وسط اليمن) كانت طفولة عبد الله البردوني في مراحل مبكرة من حياته هناك مأهولة بالحاجة والعوز في ظل مجاعة كان للبردوني نصيب وافر منها، كما أنه تعرض للفصل من الوظيفة وعمل “سقّاءً” يجلب الماء ليلاً على كتفه لأسر ميسورة الحال لقاء مال زهيد كان يُعطى له، وفقاً لمحمد القعود الذي قال لـ”ضفة ثالثة” إن البردوني عانى من الجوع وكان مثالاً حياً لما كانت عليه فترات بائسة من تاريخ اليمن في تلك الفترة، زد على ذلك أن البردوني في طفولته أصيب بالعمى متأثراً بمرض الجدري الذي انتشر في البلاد آنذاك، فتضاعفت مآسيه باكراً، لكن كل هذا لم يحد من ذيوع صيته وانتشار اسمه في سماء الابداع فيما بعد.
نداء إلى اليونسكو
مؤخراً، وبمناسبة ذكرى مرور عشرين عاماً على رحيل الشاعر والمفكر البردوني، أطلق مثقفون وأدباء يمنيون مناشدات إلى “اليونسكو”، تمنوا فيها أن تحتفي منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم بالبردوني من خلال تخصيص يوم وفاته (30 آب/ أغسطس) من كل عام للتعريف بشعره ونتاجه الابداعي والفكري، تعبيرا عن مكانته الأدبية والفكرية وأسوة
“الجغرافيا ظلمت اليمن وبالتالي ظلمت البردوني”
بالرموز والمشاهير الكبار الذين يُحتفى بهم عالمياً.
يقول الشاعر محمد القعود إن مناشدة أدباء اليمن ومثقفيه لليونسكو والمؤسسات الثقافية المعنية عربياً ودولياً تأتي انطلاقاً من أهمية البردوني هذه القامة الثقافية الكبيرة والأسطورة المتميزة والمتفردة والاستثنائية القادمة من أرض سبأ إلى العالم أجمع، والتي ليست محصورة في اليمن والإقليم العربي فحسب، إنما أسطورة تميزت واقعاً فقدمت أعمالاً إبداعية في الشعر وفي الفكر وفي الثقافة للإنسانية كلها.
وفي سياق حديثه لـ”ضفة ثالثة” قال القعود: “امتلك البردوني رؤى استشرافية للمستقبل لم يمتلكها أحد من الأدباء العرب.. فهناك عمالقة في عالم الأدب والفكر الإنساني، البردوني أحد هؤلاء، ويظل شاعراً ومفكراً وأسطورة لكل الأزمنة. فإذا كان هناك (متنبي) في الشعر العربي، هناك أيضا البردوني، ومثلما أن في الغرب (شكسبير) هنا البردوني شاعر لكل الأزمنة”.
وتابع القعود: “الكثيرون لم يقرأوا البردوني كمفكر كبير كما هو شاعر كبير أعطى قصيدة العمود روحا حداثية جديدة. فالعالم عندما يعرف البردوني سينظر إليه بإجلال وتقدير”. منوهاً أنه: “لو وُجِد رُبع أو حتى عُشر البردوني في أي دولة غنية ذات مخزون نفطي (على حد قوله)، لأقاموا له تماثيل في كل الشوارع”. وأرجع القعود عدم الاعتراف بالبردوني كأديب عالمي إلى ما قال عنه: “مشكلة الشللية العربية؛ مشكلة الأنظمة السياسية العربية؛ مشكلة الجغرافيا التي ظلمت اليمن وبالتالي ظلمت البردوني”.
فشل جهود تحويل بيت البردوني إلى متحف
منذ اللحظة الأولى لوفاة البردوني، يوم 30 آب/ أغسطس 1999، تداعت مطالب أدباء يمنيين لإخراج مخطوطاته من الدواوين الشعرية (التي لم يكن قد دفع بها للنشر قبل وفاته) إلى النور، ونشرها على نطاق واسع إضافة إلى ترجمة شعره بلغات عالمية، لكن 20 عاماً من
“عزلة البردوني وزهده ما هما إلا جزء من رؤيته للحياة من حوله”
النكران انقضت حتى الآن بحق مبدع استثنائي كتب لليمن وعبّر عن أحلام ومواجع أبناء بلده فصارت قصيدته مدوِّيةً على كل لسان، وهو الذي لم يكن داعية حرب إنما داعية سلام نشر عبر قصيدته ومنتجه الإبداعي ومواقفه وروحه الساخرة النقية قيم الدهشة والإبداع والجمال. لم يتقرب من حاكم ولم يمدح سلطة. انحاز لهموم البسطاء والغلابة من الناس، وكتب أحلامهم وأحزانهم متشبثاً بروح تتقد وطنيةً وموغلاً في عزلته التي كانت قدره في حياته وبعد موته.
إلى ذلك، يسرد محمد القعود (بأسف شديد) تفاصيل ما آلت إليه مبادرات تحويل بيت البردوني بصنعاء إلى متحف يتضمن ما أنجزه من كتب ومؤلفات ويعرض ملامح ومقتنيات من حياته. يقول القعود: “في نهاية 2013 وبعد جهود مضنية استطعت أن أجمع الأخ عبده البردوني (ابن شقيق الشاعر الراحل) ومحمد عبده البردوني بالدكتور عبدالله عوبل وزير الثقافة آنذاك، وبعد اجتماعات ونقاشات تم الاتفاق على شراء بيت البردوني القديم في باب السبح بصنعاء وتحويله إلى متحف يتضمن جميع مقتنيات البردوني لقاء مبلغ خمسين مليون ريال يمني تدفعه وزارة الثقافة يتم تقسيمه وفقا لحكم انحصار الوراثة. كذلك تم الاتفاق على أن تقوم وزارة الثقافة بطباعة الديوانين الشعريين وأن يُمنح للورثة ثلاثة ملايين ريال يمني كإنتاج فكري مقابل حقوق الطبع للديوانين “العشق على مرافئ القمر” و”رحلة ابن من شاب قرناها” في الطبعة الأولى، على أن تقوم الوزارة بالتواصل مع الجهات المختصة لإكمال الاجراءات المطلوبة الخاصة بشراء البيت وتحويله إلى متحف. ومنحني الورثة شرف كتابة مقدمة للديوانين. وتمت صياغة اتفاق رسمي ونهائي قمنا بتوقيعه والنسخة الأصلية منه حفظت لدى الإدارة القانونية بوزارة الثقافة ونُشرت تفاصيل الاتفاق في وسائل الاعلام المختلفة يومها، وعقب ذلك حدثت خلافات بين بقية الورثة تم حلها وتم الاتفاق على أن يتم توزيع قيمة البيت والإنتاج الفكري للديوانين بين جميع الورثة حسب القانون وأحكام المواريث بإشراف الإدارة القانونية بوزارة الثقافة. ونتيجة للظروف التي كان يعيشها الوطن ولخلاف نشأ مجدداً فيما بين الورثة، توقف كل شيء حتى الآن، وإنني لأشعر بأسف شديد لما آلت إليه كل تلك الجهود”.
نقلا عن المنبر العربي الثقافي “ضفة ثالثة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى