كانت «مِلحان – المحويت» من ضمن المناطق التي دخلت تحت طاعة الدولة الإمامية رغبة لا رهبة، ليُرسل الإمام بإسماعيل الوادعي عاملاً عليها، لم يكد الأخير يستقر فيها حتى فاجأه الأهالي المدعومين من قبل «الإدريسي» كانت الثلاث السنوات الأولى من حكم الإمام يحيى حافلة بالأحداث الجسام، حروبٌ شعواء عمت أرض سام، وكان أقساها وأطولها تلك التي حدثت في المُرتفعات الغربية المُطلة على تهامة، والذين كان أبطالها مسنودين من قبل محمد الإدريسي، خصم «الإمامة الزيدية» العنيد، والذي صير نفسه وبدعم من الإنجليز مدافعاً عن «الشوافع»، الذين تداعى أغلبهم لنصرته من كل حدبٍ وصوب.
كانت «مِلحان – المحويت» من ضمن المناطق التي دخلت تحت طاعة الدولة الإمامية رغبة لا رهبة، ليُرسل الإمام بإسماعيل الوادعي عاملاً عليها، لم يكد الأخير يستقر فيها حتى فاجأه الأهالي المدعومين من قبل «الإدريسي» بتمردٍ عاصف «أكتوبر 1919م»، أوى على إثره إلى حصن منيع، أرسل الإمام لنجدته بالقائد العسكري عبدالله أبو منصر، استقر الأخير وعساكره لبضعة أسابيع في جبل حفاش المُقابل، دون أن يظفر بطائل.
توالت بعد ذلك التمردات على الإمام يحيى في «صعفان، وجبل مدول، وبني سعد»، استنجد المُتمردون بـ «الأدارسة»، فأمدوهم بدعمٍ كبير، وعن ذلك قال المؤرخ مطهر: «وأمدوهم بالعُدة والعدد، وأرسلوا معهم جيشاً مُؤلفاً من التهاميين، ومن حاشد الذين استمالهم الضال – يقصد الإدريسي – بحطام الكافر الجاحد، ومعهم رؤساء من أشراف أبي عريش وغيرهم، وأصحبهم بمدفع وخزنة ومونة من رصاص البنادق كثيرة، وجعلوا محطتهم في الحمرة، وطلع الأكثر منهم إلى خميس المخرط».
وجه الإمام يحيى أوامره إلى القائد «أبو منصر» المُرابط في جبل حفاش بالتوجه إلى تلك الجهة، لتُطبق قواته وقوات أخرى قادمة من حراز كطرفي كماشة على «بني سعد»، دارت في أحراش الأخيرة معارك كثيرة، كانت في مُجملها سجالاً، قُتل فيها العشرات من الجانبين، لتتمكن القوات الإمامية من السيطرة عليها لبعض الوقت، وذلك بعد أن أجبرت سكانها على النزوح إلى تهامة، واتخذت من منازلهم ثكنات عسكرية.
عاد «أبو منصر» إلى حفاش، وكان في انتظاره فصل دامٍ من المواجهات، سيطر خلالها على وسط ملحان دون الأطراف؛ وذلك بعد أن سلك بقواته التي تجاوز عددها الـ «1,000» مُقاتل طُرق شديدة الوعورة، ليأتي قرار الإمام يحيى بتعينه عاملاً على تلك الجهة، عمل على استمالة الأهالي؛ وذلك لما تمثله المنطقة من أهمية استراتيجية.
ضاق الأهالي ذرعاً من تواجد تلك القوات، ومن تفاقم الجبايات، واستمر اتصال بعضهم بـ «الإدريسي»، ليأتيهم المدد تلو المدد، في الوقت الذي كانت مناطق الأطراف مُشتعلة بالمواجهات، زاد التضييق على مشايخ المنطقة أكثر فأكثر، وأجبروا على مضاعفة رهائن الطاعة، ليتوجه عدداً منهم إلى صنعاء للمراجعة، إلا أنَّ مساعيهم لم تنجح، وبقي الحال وعلى مدى عامين كما هو عليه.
ويعتقد محمد عيسى صالحية أنَّ استمرار المواجهات في أطراف ملحان حالت دون استجابة شيوخ الجبل للوفاق مع الإمام، وأفاد أنَّ الهزائم لحقت في نهاية الأمر بقوات الأخير، وهو أمر لم يعترف به «مطهر»، الذي اكتفى بالقول: «فلم تزل الحربُ ثائرة في أطراف الجبل من جهة تهامة، والزيلعي باقي على الخلاف، والمغربة تارة بأيدي المجاهدين، وتارة بأيدي المُخالفين، وقد صار سكان تلك الجهة مُشتتين في بلاد تهامة، وهنالك في المنواب وما فوقه جماعة من التهاميين، وأشرار حاشد المخذولين – يقصد أصحاب الشيخ ناصر الأحمر – وبينهم وبين المجاهدين في كل حين وقعاتٌ ومعاركٌ وقتالٌ مُستمر..».
تسللت الثورة إلى جبل بُرع المنيع، وكان لارتباط سكان الجبل بتهامة أثره البالغ في جعل تمردهم هو الأعنف، حاصروا مطلع العام «1920م» العامل حسين إبراهيم ومن معه في مركز الناحية «رُقاب»، فأرسل الإمام يحيى بقريبه عبدالله بن قاسم حميد الدين وعدد من العساكر ومدفع لإنقاذهم، لتدور في أحراش الجبل مواجهات كثيرة، نجح في أخرها القائد الإمامي في فك الحصار.
لم يكد «حميد الدين» يهنأ بذلك الانتصار، حتى استعاد «البرعيون» زمام المُبادرة؛ خاصة بعد أن وصلهم الدعم والمدد، وجلها قوات من قبائل القُحري شديدة المِراس، حاصروا «رُقَاب»، وتوسعوا غرباً وشرقاً حتى امتدت سيطرتهم إلى أطراف الحيمة الخارجية؛ الأمر الذي جعل الإمام يُرسل بقوات كبيرة بقيادة علي إبراهيم.
خرج الإمام يحيى لوداع تلك القوات، مُحفزاً إياها على الثبات، وباقي التفاصيل أتركها للمؤرخ مُطهر، حيث قال: «فباشروا الأعداء بالحرب، وساقوهم أمامهم بعزائم قوية، وفتكات عنترية، حتى أجلوهم عن الخبت، وبني شرعب، وغيرها فالشطبة، وعطار، وتسنموا جبل برع حرباً، واستولوا على ما في طريقهم من القرى، إلى أن وصلوا إلى رُقاب».
في ذروة انشغال القوات الإمامية بالنهب، وخلودهم إلى الراحة، ورغبتهم بالعودة إلى عقر ديارهم، استمر «الإدريسي» في إرسال المدد تلو المدد، مُحاولاً استعادة السيطرة على بُرع، لتنجح قواته بعد معارك شرسة في السيطرة على الجبل من الخلف، وعن ذلك قال «مُطهر»: «اضطرب الجند الإمامي، وعول الكثير منهم على العود من الجبل بما معهم من الغنائم، إلى أن قل عدد الجند الإمامي، ولم يبق غير أهل البصائر والثبات، وتتابعت الإمدادات من تهامة إلى الجبل، وكثرت الغزوات منهم على جند الإمام، والمباكرة والمراوحة بالقتال، فعاد الحصار كما كان».
جهز الإمام هذه المرة جيشاً جراراً بقيادة أحمد الكبسي، لتنجح هذه القوات في فك الحصار، وذلك بعد معارك شرسة سقط فيها العشرات من الجانبين، وعمَّ بسببها جبل بُرع الخراب، وعن ذلك قال «مُطهر»: «وكاد الخراب يعمُّ القرى التي على الطريق إلى رُقاب، ومع ذلك فما زال الضال يجهز الجيوش من تهامة الشام، علاوة على من في تهامة اليمن من الجموع، وجعل جبل برع محطاً ومجالاً لإدارة رحى الحروب، ومغالبة الله تعالى، والله هو الغالب وليس بالمغلوب».
لم تتحقق رغم ذلك السيطرة الإمامية على بُرع؛ والسبب انعدام الحاضنة الشعبية، وتوالي وصول الإمدادات، سيطر الثوار على الجبل، وأعادوا مُحاصرة «رُقاب»، ليقوم الإمام يحيى بإرسال جيشاً رابعاً هو الأكثر عدداً وعدة، بقيادة قريبه قاسم بن عبدالله حميد الدين، صحيح أنَّ الأخير نجح مؤقتاً في فك الحصار، إلا أنَّه مُني في النهاية بهزيمة نكراء «مايو 1920م»، وهي الهزيمة التي أخرت دخول القوات الإمامية لبضع سنوات.
لم يعترف المؤرخ مُطهر بتلك الهزائم؛ بل كان في كل معركة يتحدث عن انتصارات مهولة حققتها القوات الإمامية، وعن مئات القتلى الذين سقطوا من الطرف الآخر، مُقابل عدد قليل من أصحابه «أنصار الله» كما كان يحب أن يُسميهم، ليتحدث في الأخير عن ذلك الانسحاب المُخزي على استحياء، وختم بالقول: «النصر لم يزل حليف المُجاهدين، ولم يُهزم لهم جيشٌ قط، ولله الأمر وحده!!».
بعد تلك المعارك بسبع سنوات، وعلى مقربة من بُرع، وقف الرحالة نزيه مؤيد العظم يستحضر تاريخ الجبل، ونقل عن أحد مرافقيه من عساكر الإمام يحيى قوله: «هذا هو جبل بُرع.. وقد وقع فيه بعد الحرب العامة معارك كثيرة بين جنود الإمام وجنود الإدريسي، وفي أربع مرات متواليات، انتصرت جنود الإدريسي على الإمام، ولم تمكنها من احتلال القلعة الكائنة في رأس الجبل»، وكم كان هذا الجندي صادقاً في حديثه أكثر من «مُطهر»، الذي للأسف الشديد لم نجد أحداً سواه أرخ لتلك الأحداث، وبإسهاب مُمل.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.