غير مصنففكر وثقافة

عميد الدّان حدّاد بن حسن الكاف

جيلاني الكاف

 شلّ صوتك واحكم المغنى                     واحتكم للدان ولحونه
يومنا عاشق ولي معنى                        فنّد الصوت لا ما زان عُرف حدّاد بن حسن الكاف(ت. 1969)  في حضرموت شاعراً وملحّناً وعازفاً؛ إذ  أنّ له بصمات واضحة في تطوير أشعار الدان وألحانه. أبدع خلال ما يقارب من نصف قرن من الزمان كثيراً من روائع أغنيات الدّان الحضرمي لحناً وشعراً، مثل أغنية (  قال المعنّى بن حسن )، و أغنية ( حيا ليالي جميلة)، وأغنية( شل صوتك واحكم المغنى ) ، وأغنية (يا رب سالك تخلّي سرّنا مكتوم) وأغنية (طاب السمر قل دان يا بن زين) وغيرها من الأغاني التي أصبحت اليوم معروفة بصورة واسعة في ساحة الغناء. وقد تغنّى بها الكثيرون من الفنانين وفي مقدمتهم الفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه (ت. 2017).

  ميلاده ونشأته وحياته الدينية والعلمية
ولد حدّاد بن حسن الكاف   عام 1907م  في مدينة تريم بين أحضان عائلة جمعت بين العلم والمال والأدب والفن. وكان والده الشاعر العلاّمة حسن بن عبد الله الكاف قد أسماه (عمر) ولقّبه بحدّاد  ، فغلب اللقب على الاسم. وكأبناء عصره استفتح حدّاد حياته  الدينية والعلمية بتعلّم القرآن الكريم في المعلامة المسماة (بعلمة سعيد ) الواقعة بالسحيل. بعد ذلك ألحقه والده برباط تريم فقرأ في علم الفقه والنحو وقرأ التجويد وتعلّم الخط والإملاء. وفي مدرسة الحق بتريم  درس علوم الفقه واللغة العربية إلى جانب العلوم الطبيعية والعلوم الأخرى كالتاريخ والجغرافيا والحساب وغيرها. في هذه البيئة العلمية التريمية تطورت ثقافته وتكونت لديه خلفية فقهية أهّلته لأن يكون يوماً أحد أعضاء مجلس الإفتاء بتريم . وفي مكتباتها اطلع  حداد على نفائس الأدب العربي والتاريخ، كما يشير إلى ذلك المؤرخ عبدالقادر بامطرف. عاش حداد حياة عريضة ومليئة بالنشاط الثقافي والابداعي و توفي في دوعن سنة 1969.
حياته الفنية
كان حداد إلى جانب ولعه بالشعر وسماع الموشحات والأناشيد الدينية يميل إلى جلسات الطرب والموسيقى. وقد تأثر في ثقافته الموسيقية والفنية بكل من الفنان عبد القادر بن حسين الكاف الملقب ( سعيّد) صاحب الصوت الحسن ، والذي كان يعد من أبرز العازفين على آلة العود في مدينة تريم آنذاك. كما أخذ العلم والمعرفة الفنية عن رجل عارف كانت له اهتمامات علمية وفنية وهو العلاّمة عمر بن عبدالله الحبشي. وهكذا كانت البداية حيث تعلّم حداد العزف على آلتي العود والكمان ، ثم إنه استوفد – كما يقال – من مدينة عدن الفنان عمر غابة ليعلّمه فنون آلة الكمان ( الربابة).
الشاعر الغَزِل
يرى الكثيرون من عشاق فن الدان أن شعر حداد بن حسن يكاد يكون معظمه في الغزل وهو غزل راق رفيع المستوى كونه مشبوباً بالعاطفة والخيال الخصب ومملوءاً بالرقة والإحساس الصادق. يقول الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف إن حداد كان “متميزاً بين الشعراء الغزليين الحضارمة وكان يمتلك قوة استبصار وملكة في إنشاء المعاني والصور الجميلة لم نجدها في الغزليين الذين عاصروه أو الذين أتوا بعده إلى الآن؛ ومن هنا كان إقبال عشّاق فنه المنقطع النظير على أشعاره وألحانه ومن هنا كان احتلاله تلك المنزلة السامية التي لم يطاوله في احتلالها أحد إلى يومنا هذا” .
 وفي أشعاره الغزلية كان حداد بن حسن الكاف رحمه الله كثيراً ما يؤكد أن مذهبه هو مذهب أهل الشرع والجود ويقصد هنا  “المسلك الحميد والابتعاد عن كل ما يخدش الدين والمروءة” كقوله:
 
 مذهبي مذهب رجال الشرع والجود
وقوله:
عا الوفاء والشرع شوفونا                     لأننا من ناس لي يوفون
 كان لأشعار حداد بن حسن الكاف وألحانه تأثير واضح ليس في الشعراء الذين عاصروه أو الذين جاءوا بعده فحسب ولكن في المطربين وأهل الفن. يقول الشاعر الملحن حسين أبوبكر المحضار(ت.2000)  معترفا لحدّاد بالفضل:
لك فضل عا  أهل الفن به لا اليوم لا زلنا ندين
عا  الشعر والشعراء وعشاق الطرب والمطربين
ولك عليّهْ فضل بي مخصوص دون الباقيين
بـذكره لك دائم يلمّا قـدنـي أعظامي طحين
علّمتـني كيـف الغزل يتذوقوه العاشقـين
خلّيتنا نعرف منين الغث ومنين السمين
وقلت لا شدّيت في شيء عوّض الشدّة بليـن
الشعر ذي ما فيه رقّة ما يـؤثّـر  عا الضنـين
إن المرأة في حياة حداد بن حسن هي الملهمة روائع أشعاره وألحانه، فقد تزوج حداد عدة زوجات ، وكانت أزواجه هن الملهمات له حسا ومعنى، وكانت أروع ألحانه وأشعاره تدور حولهن. لاسيما أن من زوجاته مَنْ كانت تمتاز في الغناء بالصوت الرخيم الذي قال فيه الشعر الكثير، وكان يخاطبها في كثير من قصائده. يقول عنها:
 ليل ردّد لي مغانيك رد                           رد بهــا ردّة بــردّة
غيـّب اللـه الحسـد                                خلّ كل مبسوط يسمع سلاك
يا الهلالي حي صباحك وحيّا مساك
 حي من سالي وحي من ولد                إيـه أم كـلثوم عـنـده
فـاق غــزلان البـلـد                            في المغاني يا السلي ما كماك
 يا الهلالي حي صباحك وحيّا مساك
الملحّن الفنان
 وإلى جانب كونه شاعرا فقد كان ملحنا مجيدا.  يقول الملحّن المعروف سعيد مبارك مرزوق ، ” وحداد بن حسن الكاف  شاعر وملحّن له ألحان كثيرة”.  ويقول عن ذلك الأستاذ عبدالقادر بامطرف: “حينما انتقلت من المكلا للعمل في سيئون بوادي حضرموت عام 1946م وجدت أن أصوات ( الدان ) وأشعارها في الوادي كان يسيطر عليها اثنان من أساطين الشعر الشعبي وألحانه، وكان بقية الشعراء الشعبيين والملحنين يدورون في مدار هذين العملاقين، كان العملاق الأول : عمر بن حسن بن عبدالله الكاف الملقب (حدّاد) من أبناء مدينة تريم وكان العملاق الثاني : سعيد مبارك مرزوق من مدينة سيئون … وقد ظل هذان العملاقان متربعين على عرش  ألحان الدان قرابة نصف قرن من الزمان إلى أن توفاهما الله” .
 و من الأغنيات  التي ذكرها الأديب بامطرف من كلمات و ألحان حداد بن حسن هي: ( يقول بن هاشم بكت لعيان دم ) و( شلّ صوتك و احكم المغنى) و (خرج فصل طاب الأنس) وغيرها الكثير.[i] عاشق الدان والنغم
لم يكن حداد بن حسن الكاف هاوياً للدان والموسيقى فحسب ، ولكنه كان يعشقهما عشقاً كبيراً لا حدود له ، وقد ارتقى حداد في عشقه هذا إلى مراتب عالية ، إذ أن له قلباً مرهفاً وأذناً موسيقية بهما يتذّوق الفن ويفنّد النشاز من الأصوات ، فهو الفنان الذي أصبح فنّه عشقاً وهو العاشق الذي أصبح عشقه فناً .
يقول حداد :
 شلّ صوتك واحكم المغنى                     واحتكم للدان ولحونه
يومنا عاشق ولي معنى                        فنّد الصوت لا ما زان
***
 من زمن شف للغناء مبنى                    عاد له نغمات موزونة
 من يحب الدان يتعنّى                          له قواعد وله ميزان
فالدان عند حدّاد فن قائم بذاته له خصائصه المميزة وله ميزان و قواعد لا يعرفها إلا كل فنان عاشق مخلص قبل كل شيء لفنه وعشقه .
إن النسنسة عند حداد بن حسن تعني التمعن في الاستماع بلطف إلى أصوات غناء الدان ومنه الدخول والتوغل إلى عالمه الفني الخاص به وذلك تشبيهاً بالنسيم العليل الذي يهب هبوباً رويداً فيعطر المكان بالطيب والأريج ويتضح هذا من خلال تكرار الفعل ( نسنس ) بصيغة الأمر في كثير من مطالع قصائده أو ما يرادف معناه نحو قوله :
شلّ بالصوت نسنس يا الموفّق
يوم صوتك شجي جم عند قلبي موافق
أو قوله:
قال المعنّى بن حسن نسنس بصوت الدان يا ذا الرضي
وخلّنا با ننبسط وعلى خزاهم لي يحسدون
وإذا كانت الموسيقى في وقتنا الحاضر شفاء لكثير من الأمراض فإن الدان عند حداد بن حسن راحة من كل تعب وفرج من كل ضيق إذ يقول :
نسنس على الصوت يا عاشور              يكفي من أحزان بي وكدور
سلوتي لا ضقت في مغناك                  يا غصن داني قرب مجناك
ما في السلاء والغناء معتوب                 قل دان نسـّم على  لقلـوب
كل من سمع قال يا مسلاك                  يا غصن داني قرب مجناك
إنّ الصوت أو النغم عند حداد بن حسن يأتي دائماً من حيث الأهمية في المرتبة الأولى ذلك أن حداد بطبيعته فنّان عاشق النغم؛ إذ يقول :
 قال الفتى قلبي الليلة سمع عنقة                   وناحت العصر بالأنغام
 يا غارة الله حس في صوتها رقّـة                   باللحن تشجي
وبنغمها خلت العاشق ضوى مغروم                يا رب سالك تخلي سرنا مكتوم
ويخبرنا حدّاد أنه إذا ما سمع النغم العذب لا يبارح مكانه حيث يظل قلبه يحوم حول ذلك النغم  أو التغريد خاضعاً منصتاً نحو قوله :
تميت واقف ورجلي ما خطت دحقة                في الشمس قائم كما من قام
 أنصت لتغريدها زعقه قفا زعـقة                    في حيط نجدي
والقلب يدرج على بستانها ويحوم                  يا رب سالك تخلي سرنا مكتوم
وتمنّى حدّاد أن يلطف ويكون بين الغصن والورقة لكي يظل يتتبع العنقاء وهي تغني من فرع شجرة إلى آخر حيث قال : ( بلطف وباكون بين الغصن والورقة ) .
وقد كتب الأستاذ محمد عبدالقادر با مطرف تعليقاً على هذا الشطر قائلاً:
” لقد شد انتباهنا قوله : ( بلطف وباكون بين الغصن والورقة ) وهو معنى طريف وشفاف في منتهى الإبداع والخلق والإغراق في التخيّل اللطيف ، ولا نعلم أننا وقفنا على معنى يشابهه لا في الشعر العربي الفصيح ولا الشعبي” .
مغنو الدّان والفنانون الذين تغنوا بأشعاره وألحانه
من المعروف أن قصيدة الدّان كانت تُغنّى في الأصل بدون مصاحبة إيقاع أو أية آلة موسيقية حيث أدخلت الآلات الموسيقية عليها في وقت متأخر لهذا كان لأغنية الدان مغنّون متخصّصون. وعندما يقال : مغنو الدان فإنما يقصد بهم أولئك المغنون الذين ليس لهم صلة بالآلات الموسيقية حيث كانوا يغنّون  الدان على السليقة أو الفطرة إن صح التعبير.
أما المطربون فيقصد بهم أولئك الذين تغنّوا بالدان بمصاحبة الإيـقاع والآلات الموسيقية كالعود والكمان  … إلخ لهذا كان الفرق أو التمييز في الدان بين المغنين والمطربين.
فمن أبرز مغنيي الدان الذين تغنوا بأشعار حدّاد بن حسن الكاف وألحانه: المغني عوض حيمد باسعيدة والمغني عوض عبيد فاضل والمغني عبد الله بن برك والمغني عوض بن يسلم بريك والمغني هادي بن يسلم بريك والمغني عبيد مبارك باني والمغني سعيد بن فريج والمغني عاشور الشن والمغني الملحن سعيد مرزوق والمغني عوض بارمادة وغيرهم.
أما أبرز الفنانين والمطربين الذين تغنوا بأشعاره وألحانه فنذكر منهم : الفنان المعاصر له وصديقه الحميم  عاشور أمان الذي كان له النصيب الأوفر من قصائد حدّاد المغناة المسموعـة وغير المسموعة  إذ  كوّن الاثنان في الفن ثنائياً رائعاً. ومن الفنانين أيضاً  : عيدروس وحسين بن سعيّد الكاف و محمد جمعة خان و شيخ البار و أبوبكر سالم و كرامة مرسال  و بدوي زبيروعلوي عبد القادر الكاف و صالح عبد القادر ويسلم دحي وسعيد عبد النعيم و عبد الرب إدريس وعلي العطاس ومحفوظ بن بريك وحسن باحشوان ومفتاح سبيت كندارة  وعبدالرحمن الحداد وعبد القادر جمعة خان وصالح مبارك سالمين وعلوي صالح الكاف وعبدالله مخرج وسعيد عبد الخير.
 كذلك غنى لحدّاد الكاف الفنان الكبير محمد سعد عبدالله والفنان فيصل علوي. وقلّ أن تخلو جلسة فنية أو سهرة  في حضرموت من أغاني حدّاد بن حسن التي أصبحت اليوم جزءاً  من التراث حيث يتغنّى بها الرجال والنساء  عامة فهي على قول الشاعر:
 أغـنـيـاتٌ خـالـداتٌ أبـداً                   يا لتلك الأغنياتِ الخالداتْ
 سوف تبقى حيّةً طول المدى               ما سرى  في الكون روحٌ وحياةْ
 
نقلا عن مجلة المدنية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى