في المُقابل أراد حليفهم محمد الإدريسي من احتلاله لأغلب المناطق التهامية، أن يُضعف قوة الإمام يحيى، وأن يكسر شوكته، وقد امتد نفوذه بالفعل ليشمل «ريمة، وحفاش، وملحان، وحراز، وجبل برع»، أظهر نفسه كمدافع عن المذهب الشافعي، وسارع بالاتصال بمشايخ تلك المناطق، وعمل جاهداً على حصر «إمام صنعاء» في الجبال.
مع نشوب الحرب العالمية الأولى، تخلى الإيطاليون عن حليفهم محمد بن علي الإدريسي، فما كان من «حاكم صبيا» إلا أن ارتمى في أحضان الإنجليز، عقد معهم مُعاهدة صداقة «30 إبريل 1915م»، وأصبح بذلك من أوائل حُكام الجزيرة الذين أعلنوا – في تلك الحرب – انضمامهم للإنجليز، تلاقت مصالحه مع مصالحهم، وكان كلاهما يخشيان من أن يرث الإمام يحيى حميد الدين الأتراك، فيما كان الأخير يهيئ – بالفعل – نفسه لذلك، ويؤكد أحقيته في حكم تهامة، الأمر الذي فاقم الصراع بينه وبين الأدارسة أكثر فأكثر.
كانت عسير وسواحل اليمن الغربية ميداناً لذلك الصراع العسير، حظي محمد الإدريسي بدعمٍ كبير من قبل الإنجليز، ليقوموا وبدون رضاه بضرب مدينتي اللحية والحديدة بالقنابل والمدفعية تمهيداً لاجتياحهما، وقد تأتى لهم السيطرة على الأخيرة يوم «14 ديسمبر 1918م»، وذلك بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبعد أن دخل الإمام يحيى صنعاء بـ «26» يوماً.
دخل الإمام يحيى حميد الدين صنعاء – وارثاً الأتراك – وعينه على الحديدة، الميناء الهام الذي ستتنفس من خلاله دولته الوليدة، وهو الأمر الذي أدركه الإنجليز مُبكراً، وأرادوا من احتلالهم لذات المدينة الاحتفاظ بها كورقة رابحة للضغط على «إمام صنعاء»، ومساومته عليها؛ ليغض الطرف عن وجودهم في جنوب اليمن، وحتى لا يشكل تهديداً لهم في المُستقبل.
وفي المُقابل أراد حليفهم محمد الإدريسي من احتلاله لأغلب المناطق التهامية، أن يُضعف قوة الإمام يحيى، وأن يكسر شوكته، وقد امتد نفوذه بالفعل ليشمل «ريمة، وحفاش، وملحان، وحراز، وجبل برع»، أظهر نفسه كمدافع عن المذهب الشافعي، وسارع بالاتصال بمشايخ تلك المناطق، وعمل جاهداً على حصر «إمام صنعاء» في الجبال.
سبق لـ «الإدريسي» أن استقطب بعض مشايخ «حاشد» إلى صفه، كالشيخ ناصر الأحمر، وأخرين، كانوا يسمونه بـ «إمام الذهب»، ويسمون الإمام يحيى بـ «إمام المذهب»، وحين احتدمت المواجهات – كما سيأتي – بين الإمامين، كانوا يلهجون إلى الله بهذا الدعاء: «اللهم انصر الإمام يحيى نُص، وانصر الإدريسي نُص»؛ كي يستمر تكسبهم من تلك الحرب، المهنة التي يعتاشون بها، ولا يجيدون سواها.
شكل اتساع مناطق نفوذ «الادريسي» عامل قلق للإمام يحيى، ليوجه قواته بعد شهر من دخوله صنعاء في اتجاه الغرب، في البدء أرسل بـ «1,000» مُقاتل – جُلهم من أرحب – إلى جبال ريمة، وأرسل معهم مدفعان، وذلك بقيادة محمد الكبسي، والشيخ علي المقداد، تصدى بعض المواطنين لتلك القوات، ثم ما لبثوا أن أذعنوا مُجبرين؛ خاصة بعد أن قام الغُزاة بنهب مواشيهم، وباقي التفاصيل أتركها للمُؤرخ المُتوكلي عبدالكريم مُطهر.
قال «مُطهر»: «وقابلتهم بعد ذلك جهات ريمة بالطاعة، والدخول في سلك الجماعة، وأقبلت إليهم المشايخ والرؤساء من جميع البلاد، وانتقل المقدميان إلى الجَبى، مركز قضاء ريمة، ومن هنالك صار ضبط البلاد جميعها، كُسمة وجهاتها، والجعفرية إلى حد قبيلة الزرانيق من تهامة.. ومكث الأميران هنالك يُجريان الأمور بالاشتراك، وزال عن أهل ريمة ما كانوا فيه من الفوضى والتعادي، ونالوا حظهم من الأمان، وإقامة شريعة الملك الديان».
وفي «فبراير» من العام «1919م» جعل الإمام يحيى عمالة جبل بُرع إلى علي بن أحمد، وقد دخلها الأخير ومن معه بدون حرب، وذكر المؤرخ مطهر أنَّ سكان المناطق المجاورة راسلوا عامل الجبل «برغبتهم بالطاعة، والاستظلال بالراية الإمامية».
كان بعض سكان زبيد من جُملة المواطنين الذين راسلوا سلطات صنعاء، وبالفعل أرسل الإمام يحيى بمحمد الذاري عاملاً على تلك المنطقة «إبريل 1919م»، وذلك بالتزامن مع تمرد أهالي وصاب العالي، رفض أهالي الأخيرة الدخول في طاعة دولة الإمامة، فما كان من الإمام إلا أن أرسل بـ «2,000» مُقاتل، ومدفعين لإخضاعها، بقيادة «عامل زبيد» السابق ذكرة، ومحمد بن أحمد الوزير «عامل وصاب» المُعين، وما أن حلَّ ذلك الجيش بعتمة، حتى وصلته تعزيزات جمة بقيادة عبدالله بن أحمد الوزير.
يقول مُطهر: «كان التقدم من الأجناد الإمامية إلى وصاب العالي بعد الإعذار والإنذار، ودوام إرسال النصائح لأهله، وجوابهم المرة بعد المرة بأقبح الجواب، وإصراراهم على العناد، والبقاء على الارتياب».
هجم الجيش الإمامي على وصاب من جهتين، استبسل الثوار بادئ الأمر بالدفاع والمقاومة، وكان صمودهم أسطوري، ولولا نفاذ ذخيرتهم ما انتصر الغزاة، وما وصل الأخيرون إلى «الدَن» مركز الناحية، وفي المُقابل كان وصف المؤرخ مُطهر للجحافل الغازية مُبالغاً فيه، فهم حد وصفه «هاجموا البغاة إلى مواقعهم، ولم يهابوا رصاص بنادقهم، ولا تكاثفهم، وتساندهم».
تشير الذاكرة الشفهية في وصاب إلى كثرة قتلى الجيش الإمامي في تلك المعارك، فيما لم يشر المُؤرخ مُطهر إلى ذلك إلا تلميحاً، «استشهاد جماعة، وجرح جماعة»، هكذا قال، ولا ندري أي رقم ينضوي تحت هذه «الجماعة»؟ أما كلامه عن الثوار، فقد كان مُقززاً للغاية، ولا نعرف مدى صحته؛ كون «الذاكرة الوصابية» لم تؤرخ لذلك.
يقول «مُطهر»: «وقتل من الباغين ما ينوف عن ثلاثين قتيلاً، وحزت رؤوس بعضهم، وأرسلت الرؤوس إلى بعض النواحي، ووصل منها إلى إب عدد، وجرح منهم كثيرون، وأسر منهم عدد غير يسير»، وأتبع توثيقة بقصيدة طويلة أرخت لتلك الأحداث، جاء فيها:
وما يسَّر الباري فتوحاً تتابعت
لها غررٌ وضاحةٌ وسفور
ولما طغى في أصاب وجاهروا
ببغيٍ دهاهم للحتوف مثيرُ
فسل عنهم يوم انهزام جموعهم
وقد قطعت رؤوس وأحرق دور
انقادت بعد ذلك «وصاب السافل» إلى السلطات الإمامية، وتوجه محمد الذاري بقواته إلى زبيد «يونيو 1919م»، ليتوجه بعده بأيام قلائل عبدالله الوزير – بمن معه من قوات – صوب جبل راس، ومنه إلى حيس، وفي الأخيرة حصلت حرب عظيمة، أسفرت – كما أشار المؤرخ مُطهر – عن انهزام الأشرار، بعد أن أصيبوا بقتلى وجرحى، وأضاف: «واستقر هنالك سيدي عبدالله أياماً يُرتب الأمور، ويضبط الجهات.. ويجتث أصول كل محذور، ومن هنالك أرسل إلى مرسى الخوخة من رتبه، وضبطه، وأحكم أموره»، جاعلاً منه كمرسى بديل لميناء الحديدة الخاضع حينها للإنجليز.
سبق للإمام يحيى أن جعل عمالة المخا للشيخ علي عثمان، أحد مشايخ «اليمن الأسفل» الذين انقادوا لحكم الإمامة رهبة وبدون اقتناع، ليأتي الشيخ نور الدين محمد حسان وينازعه حُكم تلك الجهة؛ طمعاً بالأسلحة التي سبق وتركها له الأتراك، وبتحريض من «إمام صنعاء» الذي وجد في «حسان» عبداً مطيعاً، وطامحاً مُتهوراً، وكان بالفعل عصاه المُسلطة على ثوار صبر، والحجرية، والمقاطرة، والقبيطة.
حين لم يتأتى لـ «حسان» السيطرة على المخا، أرسل الإمام يحيى بعبدالله الوزير إلى تلك الجهة، ولم يُفلح هو الآخر بأخذ الأسلحة التركية، رغم إظهار «عثمان» الطاعة، فما كان من الأمير إلا أن أدلف عائداُ إلى ذمار مقر ولايته الجديد، فيما ضُمت المخا للواء تعز، الذي سيطر عليه حينها قريبه علي الوزير، وبدخول المخا تحت حضيرة الدولة الإمامية تنفس «إمام صنعاء» الصعداء، وصار لدولته الوليدة منفذاً على البحر الأحمر، إلا أن أهميته قليلة مقارنة بميناء الحديدة المُتنفس الفعلي للعاصمة صنعاء.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.