عاش المرشدي فناناً ملتزماً يؤمن بدور الفن في تغيير وتثوير الواقع. وقد وظف فنَّه لأداء هذه الغاية بشجاعة واقتدار وإصرار.
ما تزال الكتابة عن أعلام الثقافة اليمنية بحاجة إلى الكثير من التأمل والتحليل والمراجعة، فمعظم هؤلاء الأعلام لم يتم تدارس آثارهم الفكرية كما يقتضي البحث العلمي والدرس الموضوعي.
وليس من التجوّز أن جهود هؤلاء أسهمت في تشكيل وتكوين الوجدان الجمعي. فالنظر في تلك الجهود يكشف عن وثيقة حية لقراءة حركة التاريخ وتحولات المجتمع ودور الإنسان في صنع الحياة.
زمن المرشدي
توفي محمد مرشد ناجي عام 2013م، وكان نبأ وفاته مؤلما للشعب اليمني الذي كان يرى فيه أحد أعلى الأصوات المعبرة عن وجدانه.
وقد ولد محمد مرشد ناجي الفنان المثقف المطرب الملحن في عام 1929م وكانت عدن حينها تحت سلطة الاحتلال البريطاني. ونشأ وحيد أبيه في ظروف قاسية، وتلقى تعليماً تقليديا وحفظ القرآن في صباه. ثم التحق بمدارس حكومية لكنه لم يكمل دراسته. وبواسطة أحد المعلمين أتقن اللغة الإنجليزية. وعمل مترجما لبعض الوقت.
وقد اشتهر بلقبه المرشدي حين كان لاعب كرة قدم ثم انصرف إلى الغناء وذاعت شهرته مع انطلاق أغانيه من إذاعة عدن منذ عام 1954م. وأصبح من أشهر مطربي اليمن والجزيرة. وخلال مسيرة استمرت ما يقرب من ستين عاما قدَّم أكثر من مائتي أغنية تنوعت بين التعبير العاطفي والأغنية السياسية والوطنية والاجتماعية. وشكّل إنتاجه الغنائي أحد أبرز روافد ما يمكن تسميته بصوت الهوية اليمنية المعاصرة.
الفن والثورة
عاش المرشدي فناناً ملتزماً يؤمن بدور الفن في تغيير وتثوير الواقع. وقد وظف فنَّه لأداء هذه الغاية بشجاعة واقتدار وإصرار. وسجَّل من خلال الغناء موقفه من عدد من القضايا السياسية والوطنية التي عاصرها. وفي مقدمتها قضايا التحرر الوطني من الاحتلال البريطاني وقضايا الثورة على الإمامة في شمال الوطن حينذاك.
من داخل عدن بدأ الغناء في المخادر والتجمعات المنددة بالاحتلال البريطاني وذاعت بصوته أغنية” يا ظالم” التي كان تُطلب منه كثيراً في حفلاته الغنائية. وبسببها تعرض للتضييق من الاحتلال البريطاني.
وفي السياق ذاته توالت أغانيه السياسية بنبرتها الساخرة حينا والساخطة حينا ومضامينها الوطنية. ومنها: أغنية” قال أبو زيد جاني علم ما هو سوا ” وفيها يقول:
” قل لحمير يفيقوا قبل ما يندموا
لا يسمعوا ولا يطيعوا قول هذا المداجي
عمل فني لرفيدا أحمد
يصبروا فالفرج قادم ونجم الأمل نوره
من الشرق قد بدد ظهور الدياجي”
ومن صميم هذا الصوت الضاج بالثورة، خرجت أغنية” طفي النار” وأغنية” يا ميناء التواهي” وأغنية أخي كبلوني”. وخرجت أيضا السخرية اللاذعة من المحتل في أغنية: ” قائد الجيش البريطاني” وهي أغنية مباشرة سخرت من ذعر البريطانيين أمام الفدائيين
وتلك الأغاني في مجملها كانت تفضح ممارسات الاحتلال وتراكم السخط الشعبي. وتبني الوعي الجديد، وتكسر رمزية الطغاة والمحتلين وتشحذ الهمم وتحشد الطاقات وتوقظ الوعي الوطني وتدفع الجماهير الغفيرة للاستعداد للتضحية والنضال.
وحين اندلعت ثورة26سبتمبر 1962م في شمال الوطن كان المرشدي حاضرا في المشهد الثوري يغني ويؤرخ للحدث. وبنبرة الفرح يحشد الجماهير لمناصرة الجمهورية الوليدة مغنيا:
” شعبي ثار اليوم جدد ما غَبَر
لا ينال المجد إلا منْ صبر
يا أخي في ثورتك حريتك
فيها عهد الحق يحمي عزتك
قمْ، وحيي اليوم جمهوريتك
إن رب العرش بارك ثورتك
ومضى الطغيان بعدك في سقر
***
ثورة الحق على الظلم صواب
دفنت كل المآسي في التراب
إنَّ عهد الظلم قد ولى وغاب “
وبالمثل كانت أغنية” هنا ردفان” إعلان مولد ثورة الرابع عشر من أكتوبر1963م. من جبال ردفان ضد المحتل البريطاني، وقد تعالى صوت المرشدي هادراً يلهب حماس الجماهير الثائرة، ويرسم برنامج الثورة، ويؤكد وحدة الوطن شمالاً وجنوبا، ويتطلع للوحدة العربية الكبرى:
“هنا ردفان من فم كل ثائر
ومن روح القبائل والعشائر
هنا صنعاء العتيدة
هنا عدن المجيدة
هنا اليمن السعيدة
هنا الأحرار تبعث مجد غابر
***
هنا ردفان. في روحي وقلبي
هنا شمسان. في أعماق لبي
هنا نفسي. هنا أهلي وصحبي
هنا وطني العنيد. وكل حبي
هنا ذهبت جدودي. لتصنع لي وجودي
وتحفظ لي خلودي. وتكتب بالدماء خير المصائر
***
هنا ردفان. هنا بدت الطلائع
تشيد المجد عن وطني، تدافع
هنا اليمن الجديد. هنا المصانع
هنا الفلاح. عاد إلى المزارع
لها صنّاع حدا
وجدّدناه عهدا
وحققناه وعدا
لأرض النيل والشام والجزائر
هنا ردفان. هنا ردفان “
وظلت هذه الأغنية نشيد الثائرين على امتداد السنوات التالية إلى أن تم جلاء آخر جندي بريطاني في 30نوفمبر 1967م. وهي أغنيةٌ دالة على أن الفن كان يعمل جنباً إلى جنب العمل الفدائي.
وفي ثورة 11فبراير 2011م كان صوت المرشدي حاضرا عاليا مجلجلا وكأن الأمس عاد. وقد تجاوبت الأصداء في كل ساحات الثورة الشعبية في عموم المدن اليمنية. ومكبرات الصوت تهتف بالجماهير: ” أنا الشعب زلزلة عاتية”: أنا الشَّعب زلزلة عاتية. ستخمد نيرانهم غضبتي. ستخرس أصواتهم صيحتي. أنا الشعب عاصفة طاغية. أنا الشعب قضاء الله في أرضي. أنَا الشعب على قبضة إصراري. سيُفنى كل جبارِ. ولن يقهر تياري. أنا النَّصر لأحراري غداة الحشر في أرضي. أنا الشعب.”
وبالمثل كانت أغنية” يا بلادي” ما تزال في دائرة التأثير والفعل الجماهيري، وهي تملأ النفوس حماسا والقلوب أملا:
” يا بلادي، يا نداءً هادرا يعصف بي
يا بلادي. يا ثرى جدي وابني وأبي
يا رحيبا من وجودي. لوجود أرحبِ
يا كنوزا لا تساويها كنوز الذهبِ
اقفزي من ذروة الطود لأعلى الشهبِ
اقفزي. فالمجد بسام السنا عن كثبِ
اقفزي. فالمجد ما دان لمن لم يثبِ “
وبعد الاستقلال وفي ظل الدولة الوطنية استغرق المرشدي في الغناء الوجداني وأقام العديد من الحفلات الغنائية التي جعلت منه نجماً جماهيريا كبيرا.
عمل فني لرفيدا أحمد
وجاءت أغنيته ” لاتخجلي ودعي الخمار” منعطفاً هاما في الأغنية الاجتماعية التي كان المرشدي أحد رموزها في ذلك الوقت. وقد قوبلت هذه الأغنية بالكثير من الترحيب والرفض في المجتمع لكونها عالجت قضية تغطية المرأة لوجها وحقها في التعبير عن حبها:
لا تخجلي ودعي الخمار دعيه لا تتصنعي”
ألجهلهم يفنى الهوى ويموت خفق الأضلع؟!
ما أنت أول من أبتْ أو كنتِ آخر من تعي “
وامتدادا لدوره في الأغنية الاجتماعية أسهم المرشدي في التلحين للفنان المنولوجست فؤاد الشريف عدداً من الأغاني الهزلية الساخرة الناقدة للقضايا الاجتماعية.
إلا أن المرشدي الذي يرى في نفسه سياسيا يهوى الفن كان يتنهد غناء بين حين وآخر ولا يتوقف عند الماضي فهناك ما ينغص عليه فرحه ويجعله مضطراً لغناء: ” يا طير كم أحسدك” متحفظا على بعض الممارسات التي تستلب حرية الإنسان. وفيها يقول بشجن ومرارة:
” يا طير كم احسدك، حريتك في يدك لا حدّدوا لك حدود، لا لوّنوا مقصدك يا طير جاروا عليْ، ياريت قلبي أعدموه، يسك يسك كل شيء، حتى الهواء احرموه”.
ورغم ما حصل عليه وطن المرشدي من استقلال من الإحتلال البريطاني فإنه ما زال بحاجة لما هو اكثر من استرداد الجغرافيا ولذلك يغني المرشدي بحرقة بحثا عن عزة الأوطان”:
” في مهجتي منزلك في الروح في قلبي
أنت المنى والفؤاد لو تشتهي قربي
قلبي يعيش في غرامك لو تصون حبي
بس الفؤاد يا حبيبي ما يزال ظميان
يشتي ظما يرتوي من عزة الأوطان “.
وفي ذروة الضيق بما تراكم من خيبات داخل الوطن يعلن المرشدي موقفه غناء، مستعيراً قصيدة أحمد فؤاد نجم في رثاء سناء محيدلي، ويغني:
” ورق
ورق
ورق
أفكار ورق
أشعار ورق
شعار ورق
شعارات ورق
ثوار ورق
ثورات ورق
أحلام ورق
حكام ورق
ورق ورق ورق ورق
آه يا وطن على الورق
الحلم فيك
على الورق
والعلم فيك
على الورق
خدعني فيك صوت الورق
وسافرت فيك
على الورق
وحلمت بيك بره الورق”
وفي مرحلة لاحقة أتت أغنيته الشهيرة” نشوان” لتمثل ذروة الهجاء السياسي للسلطة. لاسيما أن الأغنية جاءت في معرض الرثاء للرئيس إبراهيم الحمدي الذي اغتيل وهو محل آمال اليمنيين. وهذه الأغنية حتى اليوم تُستعاد كمرثية لحال اليمني الكادح، وفيها بنغمة الأسى ونبرة التحدي سجَّل المرشدي والشاعر سلطان الصريمي تشخيصا تراجيديا للواقع اليمني.
المرشدي ملحنا
لم يكن المرشدي مؤديا للأغاني، فقد كان مثقفا يستخدم الفن في التعبير عن رؤى وتطلعات وآمال ويؤرخ به لمسارات وتحولات المجتمع اليمني. ويتوفر على قدر كبير من الوعي بالموسيقي والثقافة الموسيقية وخصائص الأداء الغنائي.
و تكاد تكون كل أغاني المرشدي قد نالت الشهرة؛ فقد كان صوتا محبوبا تنتظره الأسماع بشوقٍ وتتطلع لكل ما ينتجه. وقد وضع المرشدي بصمةً خاصة على كل ما غناه بصوته، سواء أغاني التراث اليمني القديم التي أعاد غناءها بصوته وعزفه على آلة العود، أو الأغنيات الجديدة التي لحنها لأول مرة. ولشهرة ألحانه وتميزها طلب منه عددٌ من المغنين أن يلحن لهم. وقد قام بالتلحين لغيره من الفنانين من مجايليه ومن الأجيال التالية. ومن أشهرهم: عبدالكريم توفيق وعوض أحمد و محمد عبده زيدي، ومحمد صالح عزاني وطه فارع وأبو بكر سكاريب، وعصام خليدي. وعلى مستوى الوطن العربي غنى من ألحانه المغناة فهد بلان ومحمد عبده.
وتجربة التلحين عند المرشدي هي جزء من وعيه العميق بالكلمة وبالتراث وبالهوية، وبالتطلع إلى التجديد.
الغناء باللهجات
إضافة إلى دوره الرائد في غناء ما عُرف باللون العدني غنى محمد مرشد ناجي كل ألوان الغناء اليمني مثل الحضرمي واللحجي واليافعي والصنعاني.
وعمل على كسر حواجز التلقي بين اللهجات اليمنية المختلفة وأسهم في تنبيه المجتمع اليمني إلى جمال بعض اللهجات فغنى من اللهجة التهامية أغنية ” وازيب قر” وهي تحديدا من أغاني الساحل التي يؤديها الصيادون. وغنى أغنية ” على امسيري على امسيري” وهي أغنية بدوية من كلمات الشاعر أحمد الجابري، وغنى أغنية ” شابوك أنا وامرفاق بكرة” من كلمات القاضي علي العنسي. إضافة لما غناه باللهجة الصنعانية. وكأنه بذلك كان يجسد وحدة الغناء اليمني.
عمل فني لرفيدا أحمد
مؤلفات المرشدي
إلى جانب ألحانه ألف المرشدي عدداً من الكتب التي وثَّق فيها بعض ذكرياته الغنائية ولقطات من تجربته الفنية. وأرَّخ في بعضها للغناء اليمني القديم ومشاهيره، وعرض أفكاره عن التجديد وتطوير التراث وضرورة إنتاج موسيقى يمنية. وعلق على قضايا فنية منها قضية الموشح اليمني والشعر الحميني. والفرق بين الفلكلور والغناء التقليدي.
وصارت مؤلفاته مراجع لدارسي الغناء في اليمن والجزيرة العربية. ومجموع مؤلفاته:أغانينا الشعبية. الغناء اليمني ومشاهيره. صفحات من الذكريات. وأغنيات وحكايات.
شعراء المرشدي
كان للمرشدي خصوصية فنية تمثلت في علاقته بالكلمة وعدم التوقف عند شاعر بعينه، فالكلمة التي تستحق الغناء هي مفتاح علاقته بالشعراء، ولذلك غنّى لكثيرين ممن عاصرهم وممن لم يعاصرهم.
ولاتساع أفق المرشدي وغنائه لكل الألوان المعدودة في لوحة الغناء اليمني كانت قائمة الشعراء الذين تغنى بشعرهم طويلة ومن أشهرهم: محمد سعيد جرادة، علي عبد العزيز نصر، إبراهيم صادق، لطفي جعفر أمان، عبدالله هادي سبيت، عباس المطاع، أحمد فؤاد نجم، يزيد بن معاوية، أحمد الجابري، علي محمد علي لقمان ، حسين المحضار، أحمد فضل القمندان، أحمد السقاف، يحيى عمر، أحمد شوقي، عبد الرحمن ثابت، علي بن علي صبرة، ناصر شيخ، محمد سيف كبشي، مهدي حمدون، مطهر الأرياني، سعيد الشيباني، ناصر حميقاني، أحمد بو مهدي ، القرشي عبد الرحيم سلام، سلطان الصريمي، تامر نصر، أحمد عباد الحسيني، علي أمان، نجيب أمان ، عبدالله سلام ناجي، محمد عبدالله بامطرف، أحمد شريف الرفاعي، فريد بركات ، وديع أمان. وآخرين وكان الشاعرعبدالله البردوني آخر من لحن وغنى من شعره أغنية:
من أرض بلقيس هذا اللحن والوترُ.
ولصوت المرشدي في الذاكرة الجمعية حضورٌ استثنائي فقد بقي وسيبقى متوحدا بالوطن يصدح في أذن التاريخ ويردد على امتداد الجغرافيا:
أبو علي قال أنا لي الأرض والفكرة
وافي ولا كان مثلي حد ولا بيكون
أقولها صدق لا ملزوم بالجبرة
أنا حب أرضي، ما فرط بها شعرة
الصورة بإذن من الكاتب
حروفها الياء ثم الميم وأيضاً نون.
نقلا عن مجلة المدنية