مثل الشاعر المفكر اليمني عبد الله البردوني، وما يزال، ظاهرة ثقافية سكنت وجدان اليمنيين بمختلف فئاتهم الاجتماعية وأطيافهم السياسية والمذهبية والمناطقية والثقافية والمعرفية؛ فما الذي جعله يحتل هذه المكانة الكبيرة بينهم ويمتلك هذه السلطة القوية على قلوبهم وعقولهم؟
مثل الشاعر المفكر اليمني عبد الله البردوني، وما يزال، ظاهرة ثقافية سكنت وجدان اليمنيين بمختلف فئاتهم الاجتماعية وأطيافهم السياسية والمذهبية والمناطقية والثقافية والمعرفية؛ فما الذي جعله يحتل هذه المكانة الكبيرة بينهم ويمتلك هذه السلطة القوية على قلوبهم وعقولهم؟
لا يتوقف الأمر عند حدود تعاطف الناس أو إعجابهم بشخص شق لنفسه طريقاً في الحياة بالرغم من عماه وفقره ويتمه المبكر، بل إن مجيئه من أوساطهم وتفاعله مع قضاياهم الحياتية وثقافتهم الشعبية وتعبيره عن واقعهم وأحلامهم وتطلعاتهم في شعره ونثره ومواقفه، خلقت لدى الكل شعوراً جمعياً بأنه المثقف العضوي والحقيقي المنحاز لهم والمدافع عنهم والمحقق لما يفتقدونه من معنى؛ فكيف أتيح له فعل ذلك؟
التجليات الحياتية
إن معرفة جانب من مسيرته الحياتية كفيل بكشف السر الذي جعل منه مثقفا عضوياً وظاهرة ثقافية يمنية توسع نطاقها إلى المجال العربي وربما الإنساني عامة. ولد عبد الله بن صالح بن عبد الله بن حسن البردوني (1929-1999م) في قرية (البردُّون) بمديرية (الحداء) التابعة لمحافظة (ذمار). ينتمي البردوني إلى قبيلة مزارعة يعد فيها التعاون والمشاركة في السراء والضراء من صميم ما يسهم في إحداث تلاحم أفرادها بجماعتهم وتكريس الانتماء إليهم. وفي مسقط رأسه هذا أصيب الصبي بمرض الجدري الذي نجم عنه فقدانه لبصره وهو في الخامسة أو السادسة من عمر. وهذا الأمر عمق لديه الشعور بالآخر والحاجة إليه وبالذات أمه.
لقد حتم عليه العمى التوجه نحو تعلم القرآن والعلوم اللغوية والشرعية في كل من كُتَّاب قريته وقرية (المحلة) بـ(ـعنس). وزاد ذلك تشربه من معارف المدرسة الشمسية بذمار التي تتلمذ فيها عدد من رواد النهضة في اليمن الحديث أمثال أحمد بن عبد الوهاب الوريث (ت. 1940)، والأستاذ جار الله عمر (ت. 2002) والشاعر إبراهيم الحضراني (ت. 2007)، والمؤرخ المحقق محمد بن علي الأكوع (ت. 1998)، وأخيه المؤرخ المعروف إسماعيل بن علي الأكوع (ت. 2008). وهذه العلوم لا تخرج عن خدمة المجتمع والقيام بحاجاتهم الدينية والدنيوية. وتجربة البردوني الخاصة في مجال خدمة المجتمع بحصيلته من تلك العلوم، عمقت لديه الإحساس بالمجتمع وقضاياه. فقد اشتغل لفترة محامياً للمُطلَّقات ومترافعاً عن حقوقهن أمام القضاة في المحاكم، فلمس، عن قرب، ما تتعرض له المرأة من امتهان وظلم. كما اشتغل، في فترات أخرى، مدرساً للأدب في مدرسة (دار العلوم) في صنعاء قبل ثورة 26 سبتمبر 1962م. واشتغل، أيضاً، مراجعاً لغوياً ورئيساً للجنة النصوص ومديراً للبرامج في إذاعة صنعاء قبل الثورة وبعدها. كما عمل صحفياً وكاتباً في عدد من الصحف الوطنية. وهذا كله مكنه من الاتصال بالماضي والحاضر اليمنيين والعربيين في مجالات سياسية واجتماعية ومعرفية مختلفة كانت سبباً في تعاظم شعوره بالمسؤولية تجاه معاناة المواطنين في اليمن أو في البلدان العربية الأخرى.
وقد كان لحركات التحرر التي عمت معظم البلدان العربية وما جاء بعدها من أحداث وتغيرات ودعوات يسارية ويمينية عاصرها البردوني، دور كبير في توجيه إنتاجه الفكري والشعري لخدمة قضايا مجتمعيه اليمني والعربي وتعميق إحساسه بالواجب تجاههما. إن ما قدمه البردوني في إنتاجه لم يأخذ منحى شعاراتياً، وإنما تحول إلى سلوك يومي ومواقف نضالية وطنية ومجتمعية. ومن تلك المواقف العملية إسهامه الكبير في “بلورة القلم اليمني” و”تحقيق الذات اليمنية” ومواجهة خطر العودة الناعمة للملكية والتسريع بوتيرة توحيد شطري اليمن من خلال إنشائه، مع زملائه في (عدن) والمناطق الجنوبية، وعلى رأسهم المرحوم عمر الجاوي (ت. 1997)، اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين قبل أن تتحقق الوحدة الفعلية بسنوات(1). ومن ذلك أيضا إنفاقه لما تحصّل عليه من أموال الجوائز الكثيرة والكبيرة التي نالها في طباعة مؤلفاته وبيعها للمواطنين بأزهد الأثمان إلى الدرجة التي أصبحت معظم بيوت اليمنيين لا تخلو منها أو من أحدها. وإذا لم يكن البردوني قد دخل بيوت اليمنيين من هذا الباب، فقد دخلها من باب الإذاعة عبر برنامجه الأسبوعي (مجلة الفكر والآداب) الذي بدأه في العام 1964م واستمر حتى وفاته. لقد كان من شأن هذه المواقف وغيرها خلق وعي تغييري يقض مضاجع السلط الحاكمة التي عرضته للسجن أكثر من مرة. وبدخوله السجن تعرف الشاعر الثائر على عوالم جديدة جعلته أشد إصراراً واقتناعاً بضرورة اتخاذ الانحياز إلى الشعب موقفاً حياتياً عبر عنه بقوله:
خُطَّ عنواناً وعِدْ (قطباً) به من يُحبُّ الشعبَ يأبى أن يحابي
التجليات الفكرية
خلف البردوني مؤلفات فكرية تسعة في التاريخ والسياسة والأدب والنقد. اتسمت هذه الكتب بعدم وقوفه فيها عند مرحلة التجميع والتوصيف والعرض، و إنما حرص فيها كل الحرص على التحليل والتعليل والتفسير؛ ليصل بالقارئ إلى جواهر الموضوعات وأسبابها ونتائجها. ورغم أنه لم ينتظم في دراسة أكاديمية حديثة، فقد أظهر ميلاً نحو المنهجية العلمية بصورة مدهشة. و يتجلى ذلك في استراتيجيته الفكرية القائمة، من جهة، على تفنيد بعض الآراء المعيقة للرؤية التقدمية لديه، والمؤسسِّة، من جهة أخرى، لمشروع نهضوي كان مهموماً به ويريد غرسه في الوعي الجمعي لدى مواطنيه اليمنيين.
عمل فني لمها العُمري
وبالنظر إلى عناوين هذه الكتب، يجد القارئ حضوراً مركزياً ومتنوعاً لاسم (اليمن) فيها(2). ولا يكاد يشذ عن هذا الاشتراك الجامع إلا كتابه “أشتات”( نشر سنة 1996) الذي مرر فيه، بطريقة ضمنية وذكية، تصوراته النظرية والنقدية لتجربته الشعرية التي تبناها في دواوينه. أما كتابه “من أول قصيدة إلى آخر طلقة”( نشر سنة 1993)، فغياب اسم (اليمن) من العنوان الرئيس، عوض عنه العنوان الفرعي “دراسة في شعر الزبيري”؛ لأن (الشاعر محمد محمود الزبيري ت. 1965) يعد في الوجدان الجمعي أهم الرموز النضالية والشعرية في تاريخ اليمن المعاصر .
إن هذا الحضور المكثف، لم يكن سوى علامة على هوية مفقودة أراد البردوني إيجادها وبلورتها؛ لذا وجدناه يبتعد عن أو ينتقد كل ما أسهم في تزييف هوية الإنسان اليمني وجعلته، دون وعي، منبتاً عنها، وكأنه أراد القول إن اليمني لن يجد حقيقته فيما كرسه نظام الأئمة الزيديين لأكثر من ألف عام حكموا فيها اليمن واليمنيين؛ فما كرسوه لا يعزز إلا الهوية الضيقة لهؤلاء ويهمش الهوية الجامعة لكل اليمنيين. ومن أراد البحث عن هوية اليمنيين الحقة، بكل ما طرأ عليها من تغيرات، فلن يجدها إلا في الموروث الثقافي الشعبي الذي يعبر عن الروح الفاعلة والمنفعلة للشعوب، ولعل ذاك هو ما حداه إلى تأليف كتابين في هذا المجال هما: “فنون الأدب الشعبي في اليمن”(نشر سنة 1987) و “الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية” (نشر سنة 1988). وفي كتابه “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه”(نشر أولا سنة 1972 ثم نشر سنة 1978)، وجدناه يثبت من الشخصيات والشعراء مَنْ يراه ممثلاً لهوية اليمنيين ويستبعد من يخرج عن ذلك مهما كانت شهرته. وهو الفعل نفسه الذي يستشفه القارئ من مقدمة كتابه “اليمن الجمهوري”(نشر سنة 1983) التي ركز فيها على مؤلفات تاريخية لمن يراهم ممثلين للهوية اليمنية، غاضاً الطرف عن مؤلفات من يراهم غير ذلك بالرغم من كثرتها الكاثرة. وفي هذا الكتاب يعرض المؤلف بالنقد والتحليل والتفسير، لإرهاصات تحول اليمن من النظام الملكي إلى الجمهوري ولنجاح ثورة سبتمبر ولما لحقها من هزات وانحرافات أثرت على المسار الجمهوري. و في كتابه “الجمهورية اليمنية”، الذي نُقل لنا أنه تعرض للمصادرة أو الإخفاء بعد موته، يتناول البردوني تاريخ اليمن السياسي منذ تحقيق الوحدة اليمنية في العام 1990م وما جاء بعدها. وفيه يتنبأ بمصير الوحدة ومصير اليمن فيما لو استمرت السياسات التي كانت قائمة آنذاك.
في هذه الكتابات التاريخية لا يكتشف القارئ الوعي السياسي للبردوني ولا مواقفه السياسية التي عرَّضته للأذى وعرضت مؤلفاته للمصادرة والضياع وحسب، بل إنه يكتشف وعياً فلسفياً متقدماً بكتابة التاريخ قلَّ أن يوجد له نظير في اليمن. وهذا الوعي الذي يعبر من التاريخية الوصفية إلى التاريخانية الجديدة ومن تاريخ الأحداث إلى تاريخ الأفكار، جعله يهمل تقديم التاريخ من زاوية النظر الرسمية ويقدمه من زاوية نظر الشعب الذي انحاز إليه حتى من خلال اختياره لهذا المنهج التاريخي المعين. يضاف إلى ذلك، ما قدمه له هذا المنهج من قدرة على نقد التاريخ الرسمي وكشف للمسكوت عنه فيه ومن إمكانية التنبؤ بما سيحدث في المستقبل.
التجليات الشعرية
قدم البردوني طوال مسيرته الشعرية اثني عشر ديواناً شعريا مطبوعاً وديوانين آخرين لم يريا النور إلى اليوم، و هما: “العشق على مرافئ القمر” و”رحلة ابن من شاب قرناها”. والمطلع على نتاجه الشعري المنشور، يجد أنه التحم بالمجتمعين اليمني والعربي وقضاياهما وتحولاتهما التحاماً يمكن بلورته في ثلاثة مسارات هي:
المسار الثوري والحلمي: ويشتمل على الدواوين الخمسة الأولى(3)التي تتقاسمها أبعاد ثلاثة: البعد الثوري التحرري الذي كان مطلب الجماهير اليمنية في التخلص من قوى الاستبداد والاستعمار. والبعد التفاؤلي الطوباوي الطامح إلى تحقيق الحلم بحياة أفضل للإنسان اليمني. وبعد الهوية الذي يلاحظ أنه يتجه، في هذه المرحلة، نحو الماضي ولحظات المجد التي عرفها اليمنيون في ماضيهم البعيد بالذات. والقارئ يلاحظ هذه الأبعاد في عناوين الدواوين الخمسة قبل أن يجدها مجسدة في نصوصها.
المسار التذمري والعدمي: وتجسده الدواوين الخمسة اللاحقة(4)التي رافقت خيبات الأمل الكبيرة للشعب اليمني والشعوب العربية مما أحدثه حكامها ونخبها بعد الاستقلال والتحرر من انتكاسة وخذلان لكل ما كانوا يؤملونه ويحلمون به في المرحلة الأولى. في هذه الدواوين ارتفعت حدة النقد العنيف والتشاؤم السوداوي والسخرية اللاذعة والخوف من المجهول والشعور باللامعنى والعدمية التي تلاحظ في كثير من العناوين الرئيسة للدواوين التي تمثل هذا المسار كـ: “دخانية، مرايا، الليل، بلا نوعية، رملية، غبار، كائنات، رواغ”.
المسار التجاوزي للأزمة: ويجليه الديوانان الأخيران اللذان لا يخرجان عن دواوين المسار الثاني إلا في حالة الارتداد إلى الماضي الفكري والتاريخي والشعبي. فيها يبين البردوني الفارق بين حاضرنا العاثر وبعض ماضينا الزاهر من خلال إحداث الجدلية بينهما بإعادة الحاضر إلى الماضي الفكري والتاريخي في ديوان “جوَّاب العصور”، (نشر سنة 1991) ، واستدعاء الماضي الشعبي إلى الحاضر في ديوان “رجعة الحكيم بن زايد”، (نشر سنة 1994) . وكأن البردوني في كل ديوان يقدم تصوراً لتجاوز الأزمة ووضع الحلول لها. و تجوله في العصور يعني انتقاء ما يصلح لحاضرنا منه، واستدعاء الحكيم الشعبي “علي بن زايد” يعني استدعاء فلسفته التي تستخلص الحكمة من التجارب الحياتية الشعبية المعاشة وليس مما خلفه لنا الماضي.
عمل فني لمها العُمري
لقد استطاع البردوني بقالبه الشعري الكلاسيكي المظهر الحداثي المضمون والفنيات، توظيف الخصوصية اليمنية بأشكالها ومجالاتها المختلفة من جهة، واستطاع التعبير بها عن قضايا عربية وإنسانية عامة من جهة أخرى. وقد أثبت بذلك أنه يمكن تحقيق العالمية من خلال المحلية والارتقاء بالثقافة الشعبية إلى مصاف الرسمية. وهو في صنيعه هذا ينهج طريق أدباء عالميين كبار مثل “نجيب محفوظ” و”ماركيز” اللذين حققا هذه المزاوجة في مجال الرواية. وهنا لا تنفصل المعرفة عن الفن ولا التاريخ عن الإبداع.
قدم شعر البردوني بهذه الخصوصيات مادة خصبة لنقاد الأدب ومؤرخيه. و دفع إبداعه شعراء جايلوه أو لحقوه إلى النسج على منواله والتنافس على عرشه من بعده. و الأبعد من ذلك أن بعض أبيات شعره أصبحت مادة للاستشهاد لدى العامة والطلبة والصحفيين والفنانين والسياسيين. ومن ذلك قوله:
عرفته يمنياً في تلفُّتـــــهِ خوف… وعيناه تاريخ من الرمدِ
من خضرة القات في عينيه أسئلة صُفرٌ تبوح كعود نصف متقدِ
وقوله:
جنوبيون في صنعاء شماليون في عدن
يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن
خطى اكتوبر انقلبت حزيرانية الكفن
فمن مستعمر غاز إلى مستعمر وطني
وقوله:
فظيعٌ جهـلُ مـا يجـري وأفظـعُ منـه أن تـدري
وهل تدريـن يـا صنعـا مـن المستعمـر السـرّي
غــزاة لا أشـاهـدهـم وسيف الغزو في صدري
وهذا كله يؤكد أن البردوني لم يعد شاعراً وحسب، وإنما صار ظاهرة ثقافية مرتبطة ارتباطا عضوياً بخيال اليمنيين الثقافي عن أنفسهم وعن تاريخهم ومستقبلهم.
نقلا عن مجلة المدنية الثقافية