كتابات خاصة

الفجر الكبير

بلال الطيب

لا أروع ولا أجمل من الهروب إلى حضن الطبيعة وتملكها: «كأن الضحى ملكي ألفّه وسط روحي لفوف»، ومناجاتها: «يا نهر يا وديان يا سوائل» و«سارية فوق الربا والهضاب، سحاب نفسي ظامئة واسحاب، وأنت تروي من سيولك شعاب»، ومشاركتها المسرات:

الحالمة تعز، بجوها المُعتدل، وطبيعتها الساحرة، كانت مرتعاً خصباً نهل منها الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان «الفضول» روائعه حتى آخر لحظة، واستمد منها أيوب طارش أصالة حنجرته كأجمل حنجرة يمنية، كما أنها كانت محطة أخيرة للاستقرار، نتجت عنها تلك الأغاني الخالدة، التي نمَّت مَداركنا بجمال وطننا الأخاذ، بالدخول إلى ربا الوديان، والتمتع بضحكات المُروج، والاستماع لتغريد البلابل، رسم فيها العملاقان جنة من جنان الله، موجودة ونعيش فيها، ولا يرى مفاتنها إلا من حلَّق بخشوع في تلك الروائع التي لا تتكرر.

لا أروع ولا أجمل من الهروب إلى حضن الطبيعة وتملكها: «كأن الضحى ملكي ألفّه وسط روحي لفوف»، ومناجاتها: «يا نهر يا وديان يا سوائل» و«سارية فوق الربا والهضاب، سحاب نفسي ظامئة واسحاب، وأنت تروي من سيولك شعاب»، ومشاركتها المسرات:
والكاذيات البيض قد نامت على أحضاننا
والزهر والانسام قد باتت سهارى عندنا
وصوت ماء الغيل قد غنى على أصواتنا
والليل غنى مثلنا والنجم أمسى ضيفنا
والاحتماء بها: «آوي إلى خصب المروج الخصاب، في صدرها النامي الوفير الشباب، وما دعيت الغيث إلا استجاب»، وأمرها: «ماء الغيول قل للسحاب كفى، يكفي سيول دموع عيني يا غيول تكفي»، «ياقمر يا نجوم ياشمس بالله غيبي، لفلفي ضوئك من الدنيا ويكفي حبيبي»، والإحساس بوجود الحبيبة فيها وفي تفاصيلها، و«واضم كل الزهر أشمك فيه واحضن كل ريم».
التعابير السابقة، ماهي إلا تفاصيل ثانوية للحظات الانسجام والإندماج مع الجمال، مزج «الفضول» ذاته بتلك الطبيعة، ولأنه كان مجبولاً على عشقها؛ راح يبهرنا بجولاته الاستطلاعية التي فاقت حدود الوصف، وتجاوزت تجليات الخيال.
الريف اليمني بطبيعته يستمد حيويته من المياه المتدفقة من الأودية، ومن غيوم السماء، لذا فالإخضرار سمة دائمة فيه، وفي مُعظم فصول العام، ولا أروع من ذلك التناسق والتناغم الناعم بين الوريقات الخضراء وحركة الصباح الدؤوبة، و«أيوب» بفنه العذب حلّق بنا عالياً في فضاء تلك الطبيعة، فصورها أبدع تصوير، وأبرز أجمل مفاتنها في لوحة تسر الناظرين، وتبهج المُستمعين.
«شنّ المطر يا سحابة فوق خضر الحقول»، كان ذلك النداء، وكانت الاستجابة، فلبست الأرض حلتها البديعة، الغيث فوقها يهمي ليروي ظمأها وظمأ نفوس كم تاقت لرؤيته، والاغتسال منه، لتستمد الأرواح التواقة للجمال من ذلك المشهد شيئاً من صفائها المخبوء في تلك الهالة المُنعشة من السكون، ينتهي ذلك اليوم، ويأتي يوماً آخر، قد يبدأ صباحه بطلٍ خفيف، وإن لم يكن فالأنداء تطرز الاشجار والحشائش والورود، فتتناثر عقوداً لؤلؤية تزيد من ارتواء الأرض وخصبها، «والصبح محلاه يطلع من خلال المطر، والجو عرفه زباد».
مع استمرار هطول المطر، يتجدد الحب العاطفي، ومُتعة اللقيا في حنايا تلك الطبيعة الساحرة، كما تحلوا مشاهدة الحبيبة تتراقص تحت تلك القطرات المدرارة، «خلي الندى فوقك عليك يهمي، واترك همومك لي يا خل أنت همي»، لتأتي كلمات هذه الأغنية للشاعر حسن الشرفي لتوضح الصورة أكثر:
مطر مطر والظبا بينه تدور مكنّه
يا ليت وانا سجيف
يا ليتنا خدر بدوي كلهن  يدخلنه
لو ما يروح أم خريف
غنائية «حنين المفارق» للشاعر راشد محمد ثابت هي الأخرى صورت ذلك المشهد بدقة متناهية، ومن عدة زوايا، وما على المُستمع إلا أن يطلق لخياله العنان، فيستعيد من خلالها أجمل الصور الطبيعية المخزونة في ذاكرته لمكامن الجمال.
يا حاملات الشريم والطل فوق الحشائش
هيا اسبقين الطيور وغردين بالغباشش
لمين حشيش البكور واطوين سبول عالمحاجش
ومن ندى الغيم رشين قليب ولهان عاطش
سحابة الفجر سيري مع حنين المفارق
رشي فؤاد المتيم ندى سخي العطر عابق
من مخمل الغيم غطي لواعجي بالبيارق
بُلي بهطلك قليب صبابته كالحرائق
للبكور في ريفنا مذاق خاص، فهو يصحو على تغريد البلابل، ومهايد الرعيان، ومهاجل الزراع، تفاصيله آسرة، وإبداع مطلق مُتجرد من أفون المادية، ومُنغصات الحياة، مصحوب باستقبال مُتجدد لحضن الطبيعة، ومتبوع بتأملات محدق، واطراق يملي على الروح لحظات الانتماء لمنشأ الخليقة الأول.
«يا صباح الرضا على مشارف بلادي»، أغاني «أيوب» عن البكور كثيرة، وهي بمجملها إن تتبعنا تفاصيلها عبارة عن سيناريو لفيلم رومانسي ماتع، أبطاله عاشقان، ومحاور الفيلم الأخرى من شخوص ثانوية وديكور وموسيقى تصويرية يوفره الريف بكل مقوماته، «يا صبايا فوق بير الماء والدنيا غبش، من يسقي بالهوى قلبي ويروي لي العطش».
غنائية «بكّر غبش» صورت مُعظم مشاهد الفيلم، جسدت كلماتها الرنانة أدق التفاصيل وأبهجها، فمن حضن الطبيعة ولد الحب، وبها ربا ونما، حتى وصل إلى القمة.
بكر غبش بالطل والرشاشي
بكرّ بكور قبل الطيور ماشي
حالي وسط ململم الحواشي
أخضر من الله لا مطر ولا شي
بكر وعاد الطير وسط الاعشاش
والفجر طالع بالشعاع رشاش
على الروابي تحت ظل الاشجار
فوق المروج الخضر بين الازهار
عند المراعي في ضفاف الانهار
ربا الهوى وشب في دمه نار
تستمر الحكاية مع استمرار جريان الماء، الذي ينساب في الأودية كما تنساب الروح في الجسد، وانسكاب ضوء الشمس على الأشجار الوارفة الظلال، وقطر الندى يسيل رقراقاً على أوراقها، ليقبل وجه التراب بهدوء، فتكون وجبة الحبيب الأول: «واصطبح بك وفجري قد بدأ يستدير، في السماء حيث يذري من نداه الغزير»، وكان التشبيه الأروع: «أنت فجري الكبير».
وكما ضم اللقاء حب العاشقين وقلبيهما، فإن خامسهما كان الصباح، الذي أعطى للقاء حلاوته، ومده بمقومات الجمال الكامنة فيه، مما عزز من مكانة الحب الذي قبلت طريقة الرياح، وطمست انداء ورده آثار المواجع والجراح، إلا أنَّه ـ أي الحب ـ لم يرتو وإن كانت الطبيعة من حوله قد ارتوت سقيا وداخت شراب.
أقاسم الطير في الأعشاش ضوء البكور
واشرب كؤوسي من الاصباح اشعاع نور
والف بالأنداء روحي وكم قد نمت في حضن الغمام
 إنما مكانني ظمآن
والحب لا يرويه ماء السماء
والشوق لا يطفيه شنان ماء
مع افتراق افترضه المشهد الأخير، يتذكر الحبيب تلك اللقاءات والشوق طبعاً للحبيبة والوطن يكاد يعصف به، ولسان حاله يقول:
لا شيء في روحي سوى اشتياقي 
للنهر للرعيان للسواقي
شاعود للخلان والأحبة
شاعود يكفيني شجن وغربة
شاعود للأشجار والعصافير
ملونات الريش والمناقير
وللحمام البيض والشحارير
وللغواني السائمات والبير
راجع لشمس الصبح والمغارب
راجع لبرد الظل في الشواجب
أمام تلك الحالة المؤلمة من التذكر والهيام، فرض جمال الريف نفسه وبقوة حتى آخر لحظة من مُجريات فيلم البكور، «الفجر الكبير» الذي تخيلناه ونثرنا صوره البديعة على صوت «أيوب»، غنائية «مهلنيش» فرضت نفسها كنهاية ارتضيتها لهذا الفيلم، وعلى وجه الخصوص هذا التساؤل:
لمن تضوي يا صباح بالنور
لمن تغني يا حمائم الدور
لمن لمن نسيماتي ياحور
وتقطفين زهر الخزام ممطور
وأنا من الدنيا قليبي مهجور
مهلنيش..
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى