كان عمر يُردِّد أن “دم أبيه لن يذهب هدراً”.
كان عمر يُردِّد أن “دم أبيه لن يذهب هدراً”.
والعبارة ذاتها لطالما ردَّدها عبدالرحمن. وبينهما كانت دروب الدم تمتدُّ طويلاً ومسالك الثأر تزداد اتساعاً.
حين قُتِل المساعد أول ناصر نهار يوم 16 يناير 1986 كان ولده عمر في حضن أمه، يرضع حليب اليُتْم وهو ابن سنة وثلاثة أشهر. جاءها الخبر بمقتل زوجها الطيب القلب والمتواضع الحال وصغارها الأربعة يتحلَّقون حولها غير مدركين حقيقة ما يحدث حولهم، لكنهم أيقنوا أن حدثاً جللاً حلَّ بأبيهم لحظة أن شقَّت صرخة الأم والزوجة جدار الصمت وآفاق السكينة في القرية الرابضة خلف ذاك الجبل المتطاول والمتثاقل كهمومهم اليومية والذي يرى الصاعدون اليه والساكنون خلفه أهوالاً بحجم الأساطير عند اجتيازه من والى قريتهم الصغيرة.
بعد يومين فقط، وتحديداً مساء 18 من الشهر والسنة نفسيهما، كان عبدالرحمن يتحيَّن اللحظة المناسبة ليشقّ طريقه نحو عالم يكتنفه الغموض المطلق، فقد أصابه الملل الشديد من سجنه الطويل في رحم أمه. في اللحظة نفسها كان أبوه النقيب جابر يلفظ آخر أنفاسه اثر أن راح دمه يخطُّ طريقاً طويلاً متعرِّجاً على رصيف أسمنتي مرَّت عليه آلاف الأحذية وسقطت فوقه مئات الجثث في الأيام القليلة التي سبقت وتلت ذلك اليوم. قبل مصرعه بساعات قليلة كان قد سطَّر رسالة الى زوجته يتساءل فيها عمَّا اذا كان ولده البكر قد حلَّ ضيفاً في بيته؟
آنذاك، كنتُ هناك، يوم مقتل ناصر، ويوم مقتل جابر، وفي جميع الأيام التي قُتِلَ فيها الآلاف من ناصر وجابر. كنتُ هناك لأنه كان قدري -ولا يزال- أن أكون هناك!
…
كنتُ أدري أن تلك الدماء أُهدِرت يومها، لكنني لم أتيقَّن من أنها ذهبت هدراً فعلاً إلاَّ بعد سنين طويلة. وكنتُ واحداً ممَّن ظلوا يُردِّدون بأن تلك الدماء “لن تذهب هدراً”. وكنتُ واحداً ممَّن كانوا يعتقدون بأن تلك العبارة كفيلة بتحقيق ما تحمله في جنباتها من أمل ووعد وأمنية.
غير أن الأيام المتلاحقة -بل الأحداث المتلاحقة- برهنت لي ولغيري ولأمثالي على أن الدم ذهب هدراً حين عاد الثأر هادراً. فقد ظل عمر يرى في والد عبدالرحمن صورة قاتل أبيه، وأن ثأره لن يتمّ وروح أبيه لن تهدأ الاَّ بقتله عبدالرحمن. والمشاعر ذاتها كانت تستوطن قلب وعقل عبدالرحمن.
لم يكن جابر هو من قتل ناصر حقاً. انما كانت الفكرة التي أقامت فيهما هي التي قتلتهما معاً . كانت الكذبة الكبرى التي دعتهما الى الهلاك المبين: أنهما باقتتالهما انما يُلبِّيان نداء الحزب ويُؤدِّيان واجب الوطن. ولم يكن ثمة حزب ولا كان ثمة وطن في الموضوع كله من الأساس. انما كان هناك داعي القبيلة ونكف العشيرة ونداء المنطقة وواجب القرية الرابضة خلف الجبل والتي وصلها كتاب “الثورة والدولة” قبل حنفية الماء وغزاها تيار الصراع قبل تيار الكهرباء ومرَّ منها ديالكتيك الطبقات قبل أسفلت الطرقات!
…
إن القبيلة لا تنسى ثأرها أبداً . أما الوطن فدمهُ منثور وثأرهُ مهدور وقبرهُ محفور!
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.