إنه مشهد السقوط الأكبر، سقوط المرء في مهاوي الخيانة والعمالة والارتزاق!
أشدُّ ما يُثقل قلبي ويُقلق راحتي في هذه الأيام وفي مشهد الحرب الملعونة ليس منظر الدماء والدموع والدمار، فهذه سُنَّة الحرب في كل زمان ومكان، إنما هو الأكثر ايلاماً من هذا وذاك..
إنه مشهد السقوط الأكبر، سقوط المرء في مهاوي الخيانة والعمالة والارتزاق!
ظل اليمنيون يقتتلون بأبشع صورة ولأتفه سبب. وبعد أن ينجلي غبار المعارك، يلتقي المتحاربون على كلمة ليست دائماً سواء، غير أن صفحاتهم تكون برغم سوادها واحمرارها خالية من شائبة العمالة ونائبة الارتزاق.
كانوا يقتتلون لأغراض دنيئة في معظمها، لكنها مُطهَّرة من دنس الأصبع الدخيلة. إنما اليوم فقد كشفت هذه الحرب عن نتانة طافحة جامحة كاسحة لدى أطراف الحرب، ولا أستثني أحداً منهم على الاطلاق. فقد انقسموا فسطاطين: خليجي وفارسي.. ولا مكان بينهما لليمن البتة.
لقد كان العملاء والمرتزقة والخونة من أبناء اليمن -في ما مضى- هم أولئك المرتبطون بالسلطات البريطانية أو اللجنة الخاصة السعودية. كانت لندن كعبتهم وكمال أدهم نبيَّهم وسلطان ربَّهم الأعلى.. فإذا بنا اليوم قبالة أنبياء كثيرين وأرباب أكثر، وثمة كعبة هنا وهناك: في الرياض وأبوظبي وطهران والسطور تتسع للاضافة.
وكان الخونة والعملاء والمرتزقة من أبناء اليمن -في ما مضى- ينحصرون في فئات الساسة وكبار الضباط وشيوخ القبائل، إلاَّ من رحم ربي ودعت له أمه الطاهرة.. لكن فئة جديدة أُضيفت إليها اليوم هي فئة المثقفين، بما تحتوي من كُتَّاب وأدباء وصحافيين وأساتذة جامعات ونحوهم.
وكان الخونة والعملاء والمرتزقة من أبناء اليمن -في ما مضى- يخوضون في وحلهم بصمت مُدثَّر بالخجل وشعور بالخزي واحساس بذنب عظيم، فيما هم اليوم يُفاخرون بعمالتهم للأجنبي ويُجاهرون بارتزاقهم على قارعة الطريق، كأنِّي بهم يتلذَّذون بوصفهم “قحبة وفي يدها مشعل”!
وهؤلاء بالذات تروح اليوم تبحث عن اليمن في سطور كتاباتهم وأطروحاتهم ومشاريعهم فلا تجدها على الاطلاق. فلست تجد ثمة الاَّ حمامة ظبيانية ترقد على عروش أفئدتهم، أو غزالة نجديَّة تربض في تلافيف أدمغتهم، أو طاؤوس فارسي يختال بين جوانحهم وجوارحهم. أما اليمن فهي مجرد منطوق لفظي رخيص في قاموسهم.
أن يسقط زعيم سياسي في بالوعة العمالة، أو يكبو قائد عسكري في وحل الارتزاق، أو يغدو شيخ قبيلة نخَّاس رذيلة في سوق الخيانة، فهذا والله أهون احتمالاً من رؤية مثقف في هذا الموقف.
وأشدُّ ما آلمني أن أرى رفيقي الماركسي القديم، حامل شهادة التختوراه في علوم المادية التاريخية والجدلية -يخرُّ ساجداً مُتعبِّداً قبالة العقال والريال، في لحظة مكثفة البشاعة وكالحة السوداوية، تجلَّت فيها كل صور السقوط الرخيص ومعاني الانحطاط الأسطوري!
لعنتي مضروبة في 28 مليوناً و250 ألفاً.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.