مِن اسم الرواية «مواسم الهذيان» نطل على فحوى العمل، وإن كانت كلمة مواسم لا تحمل أي مدلول بالنظر إلى سياق الرواية الذي تضمن ما يشبه الهذيان تراجعت دراما السرد في رواية «مواسم الهذيان» للروائي اليمنيّ ثابت العقاب على حساب الخطاب؛ فجاءت الرواية على جمالية الخطاب السردي منتشية بحوار وسرد تجاهل وأهمل حرص القارئ على فهم التصاعد الدرامي للحدث؛ فجاءت الرواية، متميزة على الرغم من ذلك، بالتصدي لعديد من القضايا في سياق الثقافة العربية المعاصرة ضمن سردية الهذيان التي غاص فيها الكاتب في حكايات الذات وعلاقتها بالآخر وتحولاتها في المجتمع.
مِن اسم الرواية «مواسم الهذيان» نطل على فحوى العمل، وإن كانت كلمة مواسم لا تحمل أي مدلول بالنظر إلى سياق الرواية الذي تضمن ما يشبه الهذيان كتبرير من الكاتب لذلك التدفق غير المنضبط في (القول) تجاه ما يرى أن من المهم أن يقول فيه كلمته؛ فكانت الرواية أقرب إلى تعبير عن موقف الكاتب من مجمل إشكالات واقعه المحيط؛ فأنطلق من الذات، وبقيت الذات وتحولاتها محور العمل السردي.
حرصتْ الرواية على المنافحة عن القيم الأصيلة التي تميّز الشخصية السوية، في إطار مقارنة بين ما تمثله القرية الصغيرة بوعيها القيمي الأصيل والمدينة الكبـــيرة بوعيها المادي الجديد؛ وهي مقارنة عاشها الكاتب (الراوي) بطل الرواية في رحلته داخل مدينة حديثة فيما قلبه بقي معلقاً بقريته ملتزماً ثقافته الصوفية ووعيه الإسلامي، رافضاً التماهي والإغواء الذي تمثله المدينة باعتبارها لا تمثل سوى طاحون تدجين.
أمضى الراوي رحلته في تلك المدينة، وتنقل فيها بصحبة صديقة مازن بين عددٍ من مراكزها وملاهيها مسلطاً الضوء على ما تمنحه وتسلبه في علاقتها بالذات، وتعرف إلى عددٍ من شخوصها من جنسيات مختلفة، وناقــش معهم كثيرًا من قضايا شـــعوبهم في سياق مناقشات شمـلت كثيرا من العناوين؛ وهـــي نقــــاشات كانت تطول كثيراً لدرجة يمكن اعتبارها محـــور الرواية وهدفهــــا، وما يمــــيز تلك الحــــوارات أنها كانت تعانق فضــــاءاتنا الإنسانية بشـعرية عــــذبة تخفف من وطأة الحوار الطــويل؛ وهي حوارات انسكبت ضمن هذيان استرسل فيه الكاتب وتشعب ولامس عدداً كبيراً من الأفكار التي تمثل مركز خلاف واختلاف وقلق إنساني.
زمن الرواية لم يكن واضحاً، لكن فحوى الخطاب تشير إلى أن الزمن هو الزمن الراهن، وثمة إشارات كثيرة تدلل على ذلك منها تطرقه للحرب الراهنة في اليمن وما يعيشه العراق حاليًا وخصائص المدينة الكبيرة، أما المكان ففي الوقت الذي سم صراحة المدينة (دبي) فلم يسم اسم قريته ومنطقته الريفية في اليمن في تأكيد منه أن المقصود بالقرية كل القرى وكل ما هو أصيل في بلاده. وباعتبار أن الرواية ليست سوى هذيان فليس من المنطق محاسبة الكاتب عن منطقية استخداماته لعناصره وأدواته؛ وهو في ذلك ربما أراد توظيف ما يمكن توظيفه لخدمة فكرته ورسالة روايته.
قامت الرواية من بدايتها وحتى نهايتها على نظام الأسئلة الاستفسارية (التساؤلية) بين بطل الرواية ورفيقه أو ضيفه أو مستضيفه؛ وهي أسئلة تبحث عن موقف إزاء عنوان إشكالي؛ فيسترسل الراوي في مناقشة موقفه منها.
تراجع الحبكة
على صعيد البِنية السردية تراجعت الحبكة ودرامية الحدث كثيرا، الأمر الذي يشعر معه القارئ وهو ينتقل من فكرة إلى أخرى بنسيان طبيعة الحدث وماهية شخوصه، بمعنى إن القارئ يفقد بوصلة الحدث مما يضطره للعودة لصفحات سابقة في محاولة منه لفهم السياق وماهية الشخصية التي تمثل الطرف الثاني لهذا النقاش الطويل الذي لم يعد يذكر منه سوى قالت وقلت لها/له؛ فالحوارات كانت تطول وتتشعب ممتدة لصفحات عديدة الأمر الذي يفقد معه القارئ أحياناً القدرة على الربط بين الأحداث، وإن كانت أحداث الرواية بسيطة ومحدودة مقارنة بحجم الرواية، حيث أهتم الكاتب بطرح الرؤى ومناقشتها، وفي المقابل تراجع الحدث وغابت معه الدراما في تصاعدية البناء؛ بل إن الكاتب لم يعط البناء الدرامي اهتمامًا بموازاة اهتمامه بالخطاب كما سبقت الإشارة.
لقد قامت الرواية من بدايتها وحتى نهايتها على نظام الأسئلة الاستفسارية (التساؤلية) بين بطل الرواية ورفيقه أو ضيفه أو مستضيفه؛ وهي أسئلة تبحث عن موقف إزاء عنوان إشكالي؛ فيسترسل الراوي في مناقشة موقفه منها. وهكذا تمضي الرواية متنقلة بين قضية وأخرى بشكل جميل لا يفقد معه السرد روعته مع خلوه من الدراما، وإن كان السرد أحياناً يفقد بريقه مع تمدد الشروح والتوصيف.
الخطاب
في خطابها السردي عانقت الرواية قضايا كثيرة بدءاً من الأنا والذات وتأثير الأنا المعاصرة في علاقتها بالأنا الأصيلة، وما يفرضه الحاضر والمستقبل من تحديات تستدعي من الذات مراجعة موقفها واستعادة رباطة جأشها في مواجهة التزاماتها والاهتمام بما يُمليه عليها تراثها وثقافتها ودينها وتاريخها من مواقف تُعيد الاعتبار للأصالة في علاقتها بالمعاصرة بل في علاقتها بالمستقبل. الرواية لا تضع اعتباراً للماضي إلا بقدر ما يساعد على فهم الحاضر بوعي يُعيد الاعتبار للعقل في علاقته بواقعه وذاته أولاً وبما يجعل منه فاعلاً ومؤثراً في الآخر؛ فلدينا من القيم ما هي جديرة بالتزامها وهي قادرة على تقديمنا في سياق يدهش العالم بعيدا عن المظاهر والقشور التي تسيء لثقافتنا وديننا. صحيح أن الرواية تدور بين طرفي نقيض وهما الماضي الجميل والنقي والمتاح ممثلاً في القرية الصغيرة وبين الحاضر والمستقبل بكل ادهاشاته المتسارعة والمستحيلة ممثلة في المدينة الكبيرة، إلا إن الرواية تريد أن تقول إن بالإمكان أن نبقى بجمال القرية كقيمة إنسانية في فضاء المدينة ونكون (نحن).
في هذا السياق قدّمت الرواية قراءة فلسفية للحياة تحت عناوين كثيرة كالحب والحرية والحرب والدين والعلم وغيرها، وتحت بيرق الحلم تدفق الهذيان منطلقاً من أعماق الذات وخباياها، لنقف بين الهذيان والآخر على معاناة الحياة اليومية وما يمارسه الجنس البشري من سلوكيات تتناقض مع وعيه السليم. ضمن سرد تعبيري باذخ مشع بالشاعرية مُفعماً بالقلق الذي يخدم تدفق البوح الذي سيطر على الرواية، وهي تمثل دعوة لالتزام ما يحمي الذات الصافية في مواجهة القيم الاستهلاكية، إنها دعوة لمقاومة التماهي بالآخر بوعي الحضور الخاص.
جاءت الرواية بكل هذا التدفق متميزة بلغة عززت من جمال البوح وتدفق السرد متميزة بمفردات رقيقة، وهو ما عزز من واقعية الهذيان والتخيل وجمالهما في ذات الوقت، فتستمر القراءة؛ لأن السرد مفعم بالضوء، فاتكأت اللغة على قاموس بسيط وثر حلقت بواسطته الرواية في سماوات الحلم على الرغم من أنها تغوص عميقاً في الذات، لكنها في المقابل تتمركز حول الحب وتدعو لأن ننتصر للإنسان من الداخل. كل هذه التوازنات الفلسفية تداخلت واستقامت في سياق سردي جميل على ما في مجمل العمل من هنات لا تقلل من قيمته الإبداعية.
نقلا عن القدس العربي