ناقد يمني: الكتابة النقدية هي لحظة تحرر من كل سلطة
على الناقد أن يطور من إمكاناته بحسب تطور الحياة من حوله، وأن يستفيد من كل جديد مفيد في عالم اليوم، وما أكثره.
يمن مونيتور/القدس العربي
في هذا الحوار مع الناقد الأكاديمي اليمني عبد الواسع الحميري (1958) ناقشنا إمكانات استفادة الناقد من منصات التواصل الاجتماعي، وتحقيق مستوى من التفاعلية مع القارئ؛ وهو ما استطال إلى نقاش في محددات مَهمة الناقد الحقيقي؛ وهنا كان للناقد الحميري وقفه انطلقنا منها لتناول إشكالية مواكبة النقد للإبداع، إلى أن وصل الحوار الذي تم عبر البريد الإلكتروني، إلى حال الرواية اليمنية. الكاتب الحِميري هو رئيس منتدى الناقد العربي في صنعاء، ويشتغل على مشروع نقدي يهدف فيه (صدر له أكثر من 15 كتاباً) إلى تفكيك خطاب الثقافة العربية، ويعمل حالياً أستاذاً في إحدى الجامعات السعودية…في ما يلي نص حوار «القدس العربي» معه:
■ هل تفرض طبيعة العصر الرقمي تغييراً في طبيعة عمل الناقد العربي؟ أقصد هل مازالت الصُحف والمجلات والكتب هي وسيلة الناقد الوحيدة للتعامل مع نشر عمله النقدي؟ أم صار بإمكان الناقد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط الملتميديا الوصول إلى القارئ وأداء مهمته بكل يسر وسهولة؟
□ من المؤكد أن وسائل وإمكانات إنتاج النص النقدي قد تغيرت اليوم، كما تغيرت طرق نشر هذا النص وتوصيله للقارئ؛ فلم تعد الصحيفة أو الكتاب الورقي الوسيلتين الوحيدتين للتواصل مع القارئ، كما لم تعد الورقة والقلم أيضاً الوسيلتين الوحيدتين لإنتاج النص النقدي. لقد غدت الشاشة الزرقاء؛ بما يتوفر عبرها ومن خلالها من وسائل ووسائط، هي ساحة اللقاء بين الناقد والقارئ، وكان لهذا اللقاء المفاجئ وغير المتوقع – على الأقل بالنسبة للناقد العربي- إيجابياته وسلبياته:
فمن بين أهم سلبيات هذا اللقاء: أنه بات يسرق منا الكثير من الوقت، دون أن يمنحنا حتى فرصة الإحساس بذلك، فضلاً عن أنه صار يبعد الكثير منا عن فكرة « المشروع النقدي الجامع» بما يجعل جهود الكثير من النقاد محكومة بمنطق الفعل وردات الفعل. أما إيجابياته فهي كثيرة، ومنها: أنه يمكن الناقد من الانفتاح على كل جديد مفيد في مجال تخصصه وفي المجالات الأخرى التي لها علاقة باختصاصه، فضلاً عن تمكنه من الإطلال على المشهد الثقافي بكل مكوناته، بما يساعده على إعادة رسم خريطة عمله، وترتيب سلم أولوياته، وبحسب متطلبات كل مرحلة، إنه يتيح للناقد فرصة التواصل (الحي) والمستمر مع زملاء المهنة، للحصول على المعلومة، أو الكتاب الذي يخدم موضوعه (أشير هنا إلى سرعة الحصول على الكتاب الإلكتروني من بعض المواقع أو الصفحات الإلكترونية التي توفر هذه الخدمة بكل يسر وسهولة)، وبما يتيح للناقد العيش صحبة مكتبة متنقلة؛ لا تكلفه جهداً ولا وقتا ولا مالا.
■ مع مشاغل القارئ الكثيرة وتداخل اهتماماته التي جعلت من وقته المتاح للقراءة ضيقاً؛ هل من الضروري أن تتغير طريقة الناقد بما يؤدي في الوقت ذاته للنتائج المتوخاة في خدمة العقل النقدي… أقصد هل صار استحداث وسيلة موازية لوسيلة الناقد السابقة مهمة حاليا ً؟
□ بالتأكيد على الناقد أن يطور من إمكاناته بحسب تطور الحياة من حوله، وأن يستفيد من كل جديد مفيد في عالم اليوم، وما أكثره.
■ بعض النقاد صاروا يفتحون قنوات على موقع يوتيوب ويسخّروا حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي لخدمة العمل النقدي، ويعتمدون على الكاميرا والعرض التلفزيوني في إنتاج مواد فيلمية (صوت وصورة ومونتاج)، إن جازت التسمية، يقدمون من خلالها قراءات نقدية تفاعلية مع المتلقي… إلى أي مدى، في تقديرك، يمكن لهذا الأسلوب والطريقة أن يؤدي نتائج أفضل؟
□ لا أعتقد أن انشغال الناقد (صاحب المشروع) بمثل هذه الوسائل، وبالطريقة التي ذكرت، يخدم العملية النقدية من أي وجه، بقدر ما قد يخدم – أقول قد يخدم- شخص الناقد، ويسهم في تعريف القراء والمتابعين له، كشخص لا كمشروع، لذلك فإن سلوك الناقد مثل هذا الطريق قد يحول الفعل النقدي إلى نوع من الدعاية الرخيصة في سوق الاستهلاك الثقافي لشخصه. إن القراءات النقدية الإبداعية المؤسسة لا يمكن أن تتحقق في مثل هذه الفضاءات التواصلية العامة، إنها تتحقق فقط في فضاء الانكفاء والعزلة، حيث تتاح للناقد فرصة التأمل المتأني العميق للنصوص التي ينقدها، ومساءلتها، ومساءلة الذات في ضوئها.
لقد كنت وما زلت أعتقد أن لحظة الكتابة النقدية الحقيقية هي لحظة تحرر من كل سلطة رقابية؛ داخلية أو خارجية؛ خاصة أو عامة، ذاتية أو موضوعية؛ داخلاً في ذلك سلطة الأصدقاء والمتابعين؛ الفعليين والافتراضيين، والتخلص من مشاعر الرغبة والرهبة، فضلاً عن مشاعر الخوف والطمع؛ الخوف من أن تستفز مشاعر جمهورك أو متابعيك؛ فتخسر تقديرهم، والطمع في الحصول على المزيد من المتابعين والمعجبين… إلى آخر هذه العوائق، بل الأغلال التي ما تنفك تكبل عقل المفكر الناقد، وتحول بينه وبين التفكير النقدي الحر والمستقل.
مهمــــة الناقد الحقيقي أن ينتج الأفكــــار الخلاقــــــة المؤسسة التي من شأنها أن تنهض بالفكر الإنساني، وأن تعيد صياغة الإنسان بما يجعله قادراً على التفاعل الإيجابي مع قضايا عصره، ومتطلبات العيش فيه.
■ وهل من الضروري أن تكون هناك تفاعلية بين الناقد والقارئ كالتي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، أقصد هل التفاعلية صارت مهمة للناقد وتقتضي تبسيطاً وتجديدًا في العرض تحقيقاً للأهداف المرجوة؟
□ ما تسميه بـ»التفاعلية» بين الناقد والقارئ لا شك في أنها عملية مهمة وضرورية، ولكن ليس من الضروري أن تكون كتلك التي تتحقق عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ حية ومباشرة؛ لأن مهمة الناقد – كما أراها- ليس شرح الأفكار وتبسيطها، أو تقريبها من فهم متلقيه المباشر، ولا حتى التجديد في الأفكار النقدية أيا تكن درجة أهميتها. مهمة الناقد- من وجهة نظري- أن يصغي ويحاور النصوص والأفكار، أن يسائل النصوص والأفكار، ويتساءل عبرها ومن خلالها، مهمــــة الناقد الحقيقي أن ينتج الأفكــــار الخلاقــــــة المؤسسة التي من شأنها أن تنهض بالفكر الإنساني، وأن تعيد صياغة الإنسان بما يجعله قادراً على التفاعل الإيجابي مع قضايا عصره، ومتطلبات العيش فيه… مهمة الناقد قيادة حركة التغيير في مجتمعه، من خلال إسهامه في تغيير طرائق التفكير وأنماط التعبير السائدة في مجتمعه.
■ في اليمن ينشغل الناقد الأكاديمي بالتزاماته الجامعية على حساب حضوره النقدي في المشهد الثقافي…سواء قبل الحرب أو خلال الحرب… ألا ترى أن هذا الغياب أعاق مواكبة النقد للإبداع؟ أم أن ثمة عوامل أخرى وراء تراجع النقد عن مواكبة الإبداع يمنياً؟
□ الشكوى من ظاهرة «غياب النقد الأكاديمي» في اليمن عن المشهد الثقافي اليمني وعدم مواكبته حركة الإبداع، هي شكوى غير طبيعية من « ظاهرة طبيعية»؛ لأنني أساساً لا أعتقد أن لظاهرة الغياب النقدي الأكاديمي في اليمن دوراً حقيقياً في تطور أو إعاقة حركة الإبداع في اليمن… أقول هذا انطلاقاً من قناعة صارت شبه راسخة لديّ مفادها: أنه ما من علاقة عضوية (مباشرة) بين الحركتين؛ بإمكان حركة الإبداع (الحقيقي) في اليمن أو في غير اليمن أن تنفتح على حركة الإبداع النقدي؛ محلياً وإقليمياً وحتى عالمياً، وأن تستفيد من كافة المعطيات النقدية التي قدمتها هذه الحركة ـ بكافة اتجاهاتها وتياراتها – للبشرية في كافة أنحائها وآمادها. حركة الإبداع في اليمن لا تحتاج أصلاً إلى شروط خاصة بالإبداع في اليمن، الإبداع هو الإبداع وشروطه هي شروطه؛ في اليمن وفي غير اليمن، وإن انتماء المبدع الحقيقي ليس إلى الظرف الزمكاني (بحدوده التاريخية والجغرافية)، وإنما إلى الفعل والفاعلية الإبداعية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان التاريخيين وتنبثق عنهما.
على أنه ينبغي أن لا يفهم من كلامي هذا أنني أدعو المبدع الحقيقي إلى تجاوز شرطه التاريخي بالقفز فوق وضعه في إطار الزمكان التاريخي الخاص، تلبيةً لما يمكن تسميته بـ»متطلبات الفن الرفيع»، كل ما أردت التأكيد عليه هنا: أن على المبدع الحقيقي تجاوز فكرة الإعاقة هذه، التي غالباً ما يرددها بعض الناشئة وبعض محدودي القدرة، وأن ينطلق في مواجهة قضايا مجتمعه وأمته بإمكانات فنية وإبداعية عامة؛ تتجاوز حدود مجتمعه وتعلو به على شرطه، بهذا وحده يستطيع المبدع أن يضع بصمته في خريطة الإبداع وأن يحفر اسمه في سجل المبدعين الخالدين.
■ ألا ترى أن من المهم أن يستفيد الناقد اليمني من مواقع التواصل الاجتماعي في تفعيل عمله النقدي في ظل غياب الصُحف والمجلات وصعوبة وصول الكتب للداخل خلال الحرب؟
□ من الأهمية بمكان أن يستفيد الناقد اليمني – في ظل حالة الحرب القائمة- من مواقع التواصل الاجتماعي، وما تتيحه من إمكانات، لكن ليس من أجل التعريف بشخصه والترويج لبضاعته التي قد تكون متواضعة، وإنما لتطوير قدراته وتحسين شروط أدائه النقدي: إنتاجاً وتواصلاً مع القارئ عبر هذا الفضاء المفتوح بنشر إضافاته النقدية النوعية ووضعها في متناول القارئ العربي.
■ كيف ترى واقــــع الرواية اليمنية وحضورها العربي؟
□ الرواية اليمنية في تطور مستمر وباتت تفرض حضورها في المشهد الإبداعي العربي بكل قوة وجدارة، متحدية الكثير من العقبات والصعاب، بفضل جهود كبيرة بذلتها وتبذلها كوكبة من المبدعين الرواد الذين كرسوا لها جهدهم؛ فأضافوا الكثير؛ كماً وكيفاً. ينبغي أن لا أنسى في هذا السياق جهود بعض الكتاب المبدعين؛ على الأقل ممن قرأت لهم، وتحضرني- الآن- أسماؤهم؛ بدءاً بمحمد عبدالولي، فحبيب عبدالرب سروري، علي المقري، الغربي عمران، وجدي الأهدل، سمير عبد الفتاح، نادية الكوكباني، إلخ قائمة المبدعات والمبدعين، مع خالص اعتذاري لمن لم تتسن لي الإشارة إليه باسمه في هذه العجالة.