وبين الهجرة المُطلقة والهجرة المؤقتة تبقى الأخيرة أخف حدة، وهي فرصة كبيرة للترويح عن النفس، وتغيير الأجواء، والاستفادة من خبرات الآخرين، وتقديم صورة مُشرفة
الإنسان ثَروة قومية أولى، تَعتز كل بلدان الله بوجوده، وتهتم بتأهيله، وتجعل حيزاً كبيراً منه يَرقى إلى أعلى المُستويات، لتحتل هذه النُخبة أو بِمعنى أصح أساتذة الجامعات وأصحاب الشهادات العليا رأس هرم تلك الثروة، وصاروا بموجب ذلك شركاء فاعلون في نهضة تلك الدول، وما بلادنا إلا واحدة من كل، ولأن الاغتراب في حياتنا – نحن اليمنيين – ثقافة مُمتدة مُنذ القِدم، فقد بدأت هذه الظاهرة المُتجذرة تَطال هؤلاء، لتأتي الحرب وتزيد من وتيرتها؛ الأمر الذي أثر سلباً على مسيرتنا التعليمية، وحياتنا العملية، وجعلتنا في أسفل القائمة.
تُعد هِجرة الكفاءات العلمية من الدول العربية إلى الدول الغربية من أسوأ أنواع الهجرات، اتسعت خلال الثلاثة عقود الأخيرة نتيجة عوامل عديدة سياسية واقتصادية وعلمية، وزادت أكثر في البلدان التي اشتعلت فيها الحروب «العراق، سوريا، اليمن، ليبيا»، والأسوأ أنَّها تحولت من هجرة مؤقتة إلى هجرة دائمة؛ الأمر الذي جعل كثير من المُفكرين يدقون ناقوس الخطر، ويحذرون من الآثار السلبية لاستمرارها، ويعقدون مؤتمرات تبحث عن وسائل للحد منها، وكيفية استعادة بعض هذه العقول إلى بلدانها أو إلى بلدان عربية غير مُتضررة.
وفي بلادنا المَنكوبة، لم ترتبط جامعاتنا الحكومية والخاصة بمُتطلبات المُجتمع واحتياجات التنمية الاقتصادية فيه؛ لا أبحاث علمية مُفعلة، ولا رواتب – بفعل الحرب – مُنتظمة، وإذا توفرت لا تكاد تكفي؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور بيئة من الإحباط، وأي إحباط، جعلت عدداً من أعضاء هيئة التدريس العاملين فيها يبحثون عن فُرص أخرى على حساب جهـدهم ووقتهم وأدائهم العلمي والأكاديمي، وعلى حساب وظيفتهم، لتأتي المُغريات المادية الخارجية، والاستقطابات الأكاديمية كمُحفز آخر – وربما رئيس – لتلك الهجرة المُطلقة أو المُؤقتة، وفي المُحصلة النهائية لم يَصمد في هذا الوطن إلا الراسخون في الوطنية.
وبين الهجرة المُطلقة والهجرة المؤقتة تبقى الأخيرة أخف حدة، وهي فرصة كبيرة للترويح عن النفس، وتغيير الأجواء، والاستفادة من خبرات الآخرين، وتقديم صورة مُشرفة ومُشرقة عن الإنسان اليمني، وتبديد تلك النظرة القاصرة بأن هذا الأخير عديم الثقافة لا يؤبه له، وقبل هذا وذاك تحسين ظروف الأستاذ الجامعي المعيشية، وهو الأمر الذي سيعود بنفعه عليه وعلى الوطن ككل، ويتفق وقوانينه المُنظمة والمُلزمة.
ليس من السهل أن يترك الأستاذ الجامعي وظيفته الحكومية ويتجه لخدمة جامعة أخرى ـ وإن كان الضمير الحي لا يكفي كرادع، فثمة لوائح صارمة لا تجيز ذلك، فقانونياً لا يحق لهذا الأستاذ أن يأخذ إجازة بدون راتب ما لم يتوفر في الجامعة من يُغطي تخصصه، وفي حال توفر البديل يحق له أن يأخذ إجازة تفرغ علمي لمدة سنة براتب، وأن يتبعها بثلاث سنوات بدون راتب، وفي حال خالف ذلك؛ فسيسقط راتبه من الموازنة، وسيتم فصله بعد «15» يوماً من انتهاء إجازته المُعتمدة.
من حق الإنسان أي إنسان أن يُحقق ذاته، ويبني مُستقبله، ولكن ليس على حساب الوطن، ولو تتبعنا أسماء أولئك الهاربين ممن لا هم لهم إلا المادة والتكسب المالي، لوجدنا أنَّ جزءً كبيراً من هؤلاء سبق للدولة أن ابتعثتهم إلى الخارج ليدرسوا ويُحضروا الماجستير والدكتوراه، وخسرت عليهم الكثير، وإذا بهم بكل جُحود يذهبون ليخدمون الآخر، فهل هناك أسوأ من هكذا نُكران جميل؟
ولسد تلك الفجوة التي بدأ يتسلل من خلالها ذلك النكران، لا بد من الاهتمام بالتعليم بشقيه الكيفي والكمي، وفي إطاره المؤسسي، وإعطاء الأستاذ الجامعي حقه المادي والمعنوي، وتفعيل القوانين المُلزمة، ومعرفة ما لهذا الأكاديمي وما عليه، وعدم التهاون مع أي مُقصر، وقبل هذا وذاك تعريف هؤلاء الجاحدون بأن الوطن الذي أعطى لابد أن تُبذل في سبيله كل التضحيات.
وكي لا تبقي تلك الصورة السوداوية في ذهنية القارئ هي السائدة، وجب التذكير بوجود أساتذة أكفاء، ضمائرهم حية، قادتهم نحو جادة الصواب، أصروا رغم الحرب وقساوة الظروف على البقاء، يحدوهم الأمل بمستقبل مُشرق، ويَعملون بجهدٍ بالغ لأجل ذلك، وحتما سيحصد الوطن نتاج زرعهم، أليس الصبح بقريب؟
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.