كتابات خاصة

في حب صنعاء

حسن عبد الوارث

ما زالت صنعاء تحتفظ بأسرارها، وتبسطها بغَنَجٍ آسر وبعنفوانٍ باهر. القادم اليها يهتزُّ لها برعشة الدهشة، والمقيم فيها يراها كل يوم لأول مرة.
وما تزال صنعاء كنزاً عصيَّاً على الانكشاف، وبحراً في الوعي بلا ضفاف، وقمراً يرسل أشعته في نسيج الروح خيطاً من ألقٍ زاهٍ شفاف.
لم أكن يوماً لأتخيَّل أنني سأعشق مدينة أخرى غير مدينتي الأولى، عدن..
ولم أكن يوماً لأُصدِّق أنني سأقيم في مدينة أخرى غيرها، اقامة الوجدان لا العنوان..
حتى جاء يوم تطلَّب الحدث الوحدوي أن أغادر عدن صوب صنعاء. فغادرت على مضض، وأقمت على مشقَّة. وبرَّرت حينها لنفسي أن الوظيفة تقتضي، وأن الواجب يُحتِّم، أن أهجر حضن حبيبتي الرابضة عند خاصرة البحر إلى أحضان مدينة لا تعرف لغة البحر قط.
كيف لي أن أتصوَّر اقامتي في مدينة بلا بحر ولا ميناء ولا ضفائر مجدولة على شاطىء منسرح الرمال والشجون والذكريات؟ لا أظن أنني سأقوى على هذه الاقامة لأيام معدودات!
كيف لي أن أهجر كل ذلك الجمال والدلال والدفء العدني الحميم؟ وأستبدله بوحشة الجبال وقسوة الشتاء ورعونة اللحظة المنفلتة بين خليط كئيب من التماع الجنابي واحتشاد القبائل، وانسدادها بين ربطة القات ورابطة “الديوان”!
لكن صنعاء قالت لي قولاً كريماً، ومسَّدت على قلبي، وربَّتَت على كتفي، بحنان لم أكن لأقوى على مقاومته. فإذا بي أصاب بمسٍّ من سحر أو جنون. وإذا بي أرجع إلى عدن يوماً فلا أُطيل البقاء، وأتحيَّن الأوقات والأسباب للعودة إلى أحضان صنعاء.
“نقِّلْ فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحُبّ إلاَّ… للحبيب الثاني”.
هل يصحُّ تعديل البيت الشعري على هذا النحو؟
وهل سيتقبَّل الجد النبيل أبو تمّام مني هذا المساس بقوله الأثير؟
لقد أدركت يومها كلاماً بدا غامضاً لأول وهلة، أخبرتني به امرأة استثنائية ذات لحظة استثنائية، قالت إن المرأة الأخرى غالباً ما تكون أكثر روعة بل أقوى زلزلة من الأولى. لأن للأولى سطوة الرحلة، أما للأخرى فبصمة الاقامة. فما بالك بالاقامة في حضن امرأة تضمَّخت ببخور التاريخ.. فاختزلت تاريخ البخور.
هل لعدن أن تتهمني بالخيانة؟
هل لشواطئها ونوارسها وقوارب الصيد في ساحلها وملاعب الصبا في حواريها ومدارج الشباب في ضواحيها أن تتهمني بالخيانة؟
وهل لأصدقاء الطفولة وصديقات الرجولة وأساتذة الدروس الأولى ورفاق الدروس الأخيرة.. والمقهى والملهى والحديقة والمحطة والدار والجريدة؟
إن القلب وما يهوى، والروح وما تريد، وما العقل إلاَّ منقاد إلى حيث يستقر القلب وتستوطن الروح..
وفي صنعاء أقام القلب خيمته، وأرخى غيمته، وكتب ثيمته.
هذا ليس مقالاً في مدح صنعاء.. إنما هو بيانٌ في حُبّ صنعاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى