حين كنت في السجن كنت أحلم بشكل متواصل بالشمس، والبحر، وبالحبر النظيف المشع بالحرية، كنت أحلم برؤية أسرتي، وطالما حلمت وحلمت بالحرية. إن الحرية عامة وكلمة الصحافة خاصة لم يكفلها الدستور والتشريع البشري، فمن يريد الحرية بشكلها الأعمق والأصدق فلينتظرها بزنزانة ما!
1
يقال إن لكل إنسان فرحة تتعلق بولادته، وأخرى تتعلق بزواجه، وهما من الأفراح المركزية والكبرى التي ترتبط ارتباطا عضويا بحياة كل بشري، ولكن الأمر يختلف معي إذ إن فرحتي الكبرى ترتبط ارتباطا وثيقا بيوم خروجي من السجن. ولكن هل أنا فعلاً خرجت من السجن، وكيف أصدق ذلك، وبأي جانب من أنماط سلوكي كإنسان طبيعي يختبئ فيّ السجن؟
حين كنت في السجن كنت أحلم بشكل متواصل بالشمس، والبحر، وبالحبر النظيف المشع بالحرية، كنت أحلم برؤية أسرتي، وطالما حلمت وحلمت بالحرية. إن الحرية عامة وكلمة الصحافة خاصة لم يكفلها الدستور والتشريع البشري، فمن يريد الحرية بشكلها الأعمق والأصدق فلينتظرها بزنزانة ما!
2
وكما أن حرية الصحافة أنواع فكذلك أيضا السجن أنواع، ولأنه لا توجد في عالمنا العربي ثقافة مجتمعية تجاه السجون وما يدور داخلها مطلقا، فكذلك الأمر المتعلق بالصحافة وحريتها! فمن يرعاها ويهتم بها.
حال السجون تختلف حين يتعلق الأمر بسجن سياسي أمني، فالسجن هنا أشبه ما يكون بغرفة تعذيب دائمة، تترك أثرها وبصمتها على حواسك، وحيث تكون القسوة الشديدة التي تفوق افتراضات العقل هذه هي أجواء السجن، وحين نعقد مقارنتنا مع حرية الصحافة نجدها حرية ناقصة، ومستلبة، وهي كذلك بسبب قبضة الأجهزة الأمنية القوية التي تجري دماؤها في جسد الصحافة التي حين تحتاج للحرية تذهب للتنفس في هواء أميركا وأوروبا!
3
يوم خروجي من السجن يشكل بالنسبة لي ولادة جديدة، ولادة بدأت الساعة الرابعة فجرا يوم 22 شباط من هذا العام، وحين وصلت مطار أبو ظبي، وركبت بالطائرة بدأت بدراسة العواطف مثل: الخوف، السعادة، الألم، التعاطف، في إطار أن الحياة العاطفية للسجين شديدة الخصوصية وسرية لا يمكن له وحده أن يفسرها أو يفهمها فهي ولادة أشبه ما تكون بمن يدخل الحياة جديداً وأشبه ما يكون بمن لم يعرف الحياة، أين ذهبت كل تلك الحياة السابقة، إنها في ابتسامة أبنائي وزوجتي وفرحتهم.
لم أكن أتخيل أن تكون فرحتي بهذا الحجم ولم أكن أتخيل أن أكون في عملية بحث عن الأسباب التي تدفع البشر للبحث عن سمات بشرية كما أفعل أنا.
4
لماذا لم يعد متاحاً لي الكتابة عن سجني وما حدث معي، ولم يعد متاحا لي جذر هام من جذور حريتي وهو الكتابة عمّا أرغب به، لذلك وتأصيلا لفاعلية العفوية في ذاتي الكاتبة أطرح مجموعة من الأسئلة التي شغلتني داخل السجن وما تزال تشغلني، أسئلة أضعها أمام المنبر الذي يشغل مكانه وسياقه التاريخي والحداثوي والقومي لكل إنسان وهو الضمير لأنه الممثل الحقيقي لحرية التعبير والصحافة لكل إنسان حر، ومن لا ضمير له لا حرية لديه!
5
أسئلتي تأتي في إطار فاعليتنا كعرب وكمسلمين في المجتمع البشري عموماً، أسئلة تشمل
“أطرح مجموعة من الأسئلة التي شغلتني داخل السجن وما تزال تشغلني، أسئلة أضعها أمام المنبر الذي يشغل مكانه وسياقه التاريخي والحداثوي والقومي لكل إنسان وهو الضمير لأنه الممثل الحقيقي لحرية التعبير والصحافة لكل إنسان حر، ومن لا ضمير له لا حرية لديه!”
وتشكل الحجر الأساس لضخامتنا. أطرح هذه الأسئلة في خضم ما عايشت عن قرب في سجني من فحول “الإرهابيين” وتيارات فكرية، وتنظيمات الإسلام السياسي المتعددة والمتشعبة بكافة أشكالها والتي تصب كلها بنهر واحد، الأسئلة التي أتحدث عنها وإن كانت ترفض الإرهاب كسمة وكنظرية تحمل أبعادها وآفاق عملها التاريخي في وقتنا وواقعنا المعاصر إلّا إن هذه النظرية، “نظرية الإرهاب”، تحتاج لمقولة أخرى مضادة وفاعلة، وعلم الاجتماع وعلم التاريخ كفيلان بذلك!
6
الطريف في أمري أنني أعي تماما ما مدى خطورة حقل الألغام الذي ألجه، ولكنني أملك الآن أمام ما أنا فيه أسئلة بيضاء وفي منتهى البساطة، أطرحها عبر الكتابة علّها تشكل وثيقة لإرهاصات ما عاينته عن قرب. وخاصة أنه لم تكن ثقافة السؤال عبر حقب التاريخ والتراث سوى أهم مفتاح معرفي، يواجه فيه الإنسان مصير تفكيره، فثقافة السؤال تخلخل السائد والنمطي وتذهب بنا نحو آفاق معرفية جديدة، ونحو أنساق فكرية تبدّد الوهم الذي تخلقه المعرفة المعلبة والجاهزة! وتطالبنا ثقافة السؤال أن نحلق في بيئة العقل الغنية، والخصبة، حتى نكون أكثر تعمقا في ذواتنا، وأكثر قربا منها وعلى الأخص أن السؤال هو الجزء الأكثر أصالة للذات المفكرة… أليس كذلك!
7
من أين تستمد الحركات الثورية مصدر قوتها؟ وهل السجن أصبح بمثابة المكان الشرعي لكل فكر ديني جوهري أصله ثابت؟
8
هل الحاضر العربي متقدم؟ هل يملك ناصية الحداثة؟ وهل حاضرنا أفضل من ماضينا؟ وأين يكمن الحل لكل هذا الاستبداد العربي اليومي والمعاش؟ وهل استطاعت الأنظمة أن تجعل من استبدادها شكلاً من أشكال الإخفاق للذات العربية؟
9
الدولة التي لا أريد أن أذكر اسمها وأصبح الكل يعرفها هي وشقيقتها الكبرى، هل أصبحت مصدرا في جوهرها ومضمونها لعسكرة العقل العربي؟ وهذا ما لا يعرفه أحد، وإلى متى الصمت، وإلى متى يتم التعامل مع الحرية كسراب؟
10
كيف أصبحت الثقافة بأغلبها شكلا من أشكال الأمن الناعم؟ ولماذا كل هذا الخراب والفساد أصبح يسكن الوعي العربي والثقافة العربية أيضا؟
11
لم اتسعت المسافة ما بين الفكر العربي والواقع؟ وهل الأنظمة العربية قادرة على تقديم هوية واضحة لدولتها؟ وما هي طبيعة تلك الهوية؟ وإلى متى ستبقى الازدواجية والانفصام سمة من سمات وقوع الأنظمة تحت الضغط؟
12
ما لا يعرفه أحد يكاد يكمن بالسؤال التالي: هل الجماعات الإسلامية وليدة تعسف ودكتاتورية الأجهزة الأمنية؟ وهل الأجهزة الأمنية وهي مرآة للحاكم الأوحد وتنتج مفردات لا حصر لها من العنف المنظم، والدقيق، والحقيقي، قادرة على السباحة بنفس النهر مع الحاكم، مرآة وظل الله على الأرض؟ وهل السجون الأمنية قادرة على خلق تنظيم جديد لا يحاكي ويتجاوز تنظيم “الدولة الإسلامية”؟ وهل أصبحت الأجهزة الأمنية أدق وأعمق أشكال الحفاظ على الأمن والأمان وفق منظومة استبدادها كونها تحمل الشعار الخالد “لا أحد فوقها”؟
13
خجلت من استعمال مصطلح “الإله الأمني” وأنا بصدد طرح سؤالي التالي: إلى أين سنصل
مع عبادة الذات الحاكمة؟ وهل الحديث عن هذا الأمر مجد للغاية؟ وهل تأخذ الأجهزة الأمنية مهمة عبادة الذات الحاكمة وإلى متى؟
14
ونحن نعيش تحت وطأة العجز العربي ما هي المهمات التي علينا أن نعتليها ونطرحها؟ ولماذا أصبحت مهماتنا في الحياة معقدة؟ وهل أصبح العيش مهنة؟ فمثلا النظام الاقتصادي والسياسي العربي برمته يدفعنا لشرط الحفاظ على أنفسنا أحياء فقط.
15
هل الثورة تعني دائما الإصلاح؟ أم أنها أكثر من ذلك بالمفهوم الديني؟ وهل أصبح عالمنا العربي يشهد تحقيقاً لمفهوم الدين كموقف أصيل في طي تفكيره الراهن؟
16
لماذا يتسم عصرنا العربي بكل هذا الاحتضار والانهيار؟ وهل أصبح التوحش سمة أمة أيضا؟ وكيف انكفأ الإنسان العربي على ماضيه الذهبي مدافعا ومتماسكا به؟
17
هل يستطيع الإنسان العربي التفكير بمفهوم الحرية دون أن يتجاوز الدخول إلى السجن؟ وهل للحرية متسع عبر خارطة عالمنا العربي؟ وكيف يتمكن الإنسان العربي من الدخول إلى ساحة الحرية ليس بوصفها ساحة معركة؟ هل الإسلام أشمل من مفهوم الوطنية؟ الإسلام ينظم الحرية بوصفها مفهوما من مفاهيم العدالة الإلهية العظيمة، وخاصة أن معركة الإنسان العربي القادمة كلها مع الاستبداد وتجلياته، وما أكثرها ليس فقط في إطار السجون بل في حياتنا برمتها أليس كذلك؟!
18
هل أصبحت ظاهرة الإرهاب ظاهرة تجارية أيضا؟ فالتجار كثر والسوق مشاربها متعددة، وهنا كيف نفهم كل هذا التعطش للدماء؟ ولفقه الدم؟ دون أن نفهم أن الماضي برمته يُشكّل عقيدة
راسخة لمنطقهم؟ والمهم جدا أن تسأل نفسك كيف يمكن أن تشعر بأن نور الشمس يحيط بك ويسكنك وأنت وحدك؟
19
من أين جاءت ثقافة الاستهلاك؟ وكيف أصبح “الأغلب” مدمناً عليها؟ وهل ينسحب مصطلح “الإرهاب” ومشتقاته إلى مآلات الثقافة الاستهلاكية؟ ولماذا تظهر تجليات فن الإرهاب وآياته في الميديا ولا علة دقيقة تظهر لنا للوقوف على غايته؟
20
ثمة قائمة طويلة من المصطلحات والمشاهد المؤذية ترافق حواسنا عبر الإعلام بأشكاله المختلفة تراها أين تذهب في عقولنا؟ وما مدى تأثيرها على سلوكنا؟ وأين نشاهد حرية الصحافة التي تشكل الوجه الأمثل للحق والحقيقة بعيدا عن المنافع والمصالح؟
21
هل تحولت مفاهيم مثل الدولة إلى مصطلح عصابة؟ وهل خصصت ألقاب متفق عليها لكل رئيس عصابة، مثلا لقب شيطان العرب، وهل يحق لي أن أضيف لقباً جديداً مثل: “حمار العرب”! هل يتيح لي الخيال ذلك؟ وهل تسمح لنا الحرية- حرية التعبير- أن نقول ما نود قوله دون استعمالنا للمساحيق التي شوهت ما تبقى لنا من أبجدية نضرة، خضراء كما الربيع!
22
أين مصداقية وفاعلية الكلمات التالية في حياتنا العربية: دولة، أحزاب، نقابات، مؤسسات مجتمع مدني؟ كلمات مجرد كلمات… هل يتوجب عليها أن تتناسق مع الجغرافيا العربية الجميلة والمتشظية أيضا لأن تجارها كثر أيضا؟
23
صناعة الإرهاب، وصناعة المسخ، وصناعة الأكاذيب، وصناعة الخديعة، وصناعة الأمراض، وصناعة الدم، صناعة حرية الإعلام، كلها صناعات شائعة في العالم ولكن هل صناعة الغباء الأكثر امتيازاً لكم بين كل تلك الصناعات؟!
24
ختاماً: الأسئلة لا تنتهي بانتهاء هذا المقال، هي دعوة وميثاق لكل إنسان حر أن يشتق من الأبجدية أسئلته التي ترفع من قامته كإنسان، وليكن مفتتح كل الأسئلة ـ دائما ـ سؤال حرية الصحافة المسؤولة، العمود الفقري لكل ما له قيمة وجدوى في وجودنا كبشر أحياء، وعلى الأخص أن كل عبد يريدك أن تشبهه؛ أليس كذلك!
نقلا عن المنبر العربي “ضفة ثالثة”