كنت قد بينت في مقالات سابقة مدى التناقضات القائمة على تحديد مقاصد الشريعة بخمس كليات، منها زاوية انطلاقهم من العقوبات، إذ إن بعض العقوبات غير منصوصة في القرآن ومن ثم لا سند لها من دليل قطعي كعقوبة الردة مثلا والتي حددوها من خلالها مقصد حفظ الدين، وعقوبة شرب الخمر التي حددوا من خلالها مقصد حفظ العقل.
زاد الاهتمام في العقود الأخيرة بالدراسات المقاصدية في حقل الفكر الإسلامي، وهو اهتمام جيد يسعى إلى وضع رؤية ديناميكية للمسلم تتفاعل مع الأحداث بشكل أسرع وأقرب لروج الدين، ولكن من خلال قراءتي لتلك الدراسات وجدت أن غالبها يدور حول ما كتبه الشاطبي وابن عاشور وقليل جدا من حاول أن يخرج عن تلك الرؤية كالدكتور طه جابر العلواني.. ويأتي هذا المقال في سياق النقد والتقويم للدراسات المقاصدية السابقة، ولما كان المقام مقام إجمال يكفي أن نمر سريعاً على خلاصة الرؤية الجديدة، لندع تفصيلها في مقام آخر لمن يهتم من المتخصصين، أما القارئ غير المتخصص فيكفيه مقالات مبسطة واضحة.
قضية مقاصد الشريعة واحدة من أهم محركات التفكير الديني، وبالتالي فإن الاهتمام بها ليست مسألة تخصيصية تكتب وتدرس لمتخصصي الشريعة، وإنما هي تهم كل متدين يسعى للوصول إلى الحقيقة، وتهم كذلك غير المتدينين لأنها تحفظ لهم حقوقهم كبشر، ومن ثم فدعمها أو نقدها بما يحقق مصلحة الإنسان هو هدف مشترك لكل بني الإنسان.
كنت قد بينت في مقالات سابقة مدى التناقضات القائمة على تحديد مقاصد الشريعة بخمس كليات، منها زاوية انطلاقهم من العقوبات، إذ إن بعض العقوبات غير منصوصة في القرآن ومن ثم لا سند لها من دليل قطعي كعقوبة الردة مثلا والتي حددوها من خلالها مقصد حفظ الدين، وعقوبة شرب الخمر التي حددوا من خلالها مقصد حفظ العقل.
لكن إذا ما عدنا إلى دراستهم عن المقاصد فإننا سنجد أنهم ربطوها بالأحكام فقط أي أنهم أخرجوا من العقائد، وهذا يعني أن تلك المقاصد هي مقاصد الشريعة فقط لا مقاصد الدين.. وفي دراسة سابقة لي عن هذين القسمين كنت قد قدمت مبررات كثيرة ليكون التقسيم ثلاثيا لا ثنائيا، لاعتبارات كثيرة، فيكون لدينا بجوار العقيدة والشريعة قسم ثالث اسمه الشعائر، يكون منفصلا لا داخلا ضمن الشريعة، لأنها تنظيم لعلاقتنا مع الله لا مع الناس.
وبحسب هذا التقسيم الثلاثي يمكن أن نتتبع في النص القرآني مقاصد العقائد، ومقاصد الشعائر ومقاصد الشريعة، وتكون دراسة الكليات التي تحفظ الإنسان مندرجة ضمن الشريعة.
فإذا ما أعدنا دراسة تلك الكليات في ضوء هذا المنظور للمقاصد فإننا يمكن أن نصل إلى كليات أكثر اتساقاً مع الأحكام، فإذا أخرجنا مقصد حفظ الدين إلى باب حقوق الله، لأننا لا يصح أن نقول منطقاً أن الدين جاء لحفظ الدين!
سيتبقى معنا أربعة كليات وهي النفس والعقل والنسل والمال، وقد تأملت فيها واستقراء الأحكام فوجدت أن مقصد حفظ النفس متسقاً، أما حفظ العقل يمكن أن يدخل ضمن حفظ النفس، فكلاهما حفظ للوجود الحسي للإنسان، وأما حفظ النسل فليس واضحاً، ويمكن أن يدخل ضمن حفظ النفس إذا كان المقصود به التوالد والتكاثر، وأما حفظ المال فيمكن أن يكون الكلية الثانية، باعتباره يحفظ للإنسان ما يقيم حياته واستمرارها، وبقي معنا كلية ثالثة يمكن أن يكون نواتها حفظ العرض، ولكن بمسمى أكثر شمولاً لقضايا كثيرة تحفظ وجود الإنسان من الزاوية المعنوية، وأشمل لفظ لذلك هو حفظ كرامة الإنسان، فتكون الكليات أو المقاصد للشريعة كالتالي:
حفظ النفس (الوجود الحسي للإنسان).
حفظ كرامة الإنسان (الوجود المعنوي للإنسان).
حفظ المال (أساس استمرار الحياة).
وهذا المقاصد الثلاثة ستحقق للإنسان أهم ثلاثة حقوق هي: حق الحياة، وحق الحرية والكرامة، وحق التملك.
ويدخل في مقصد حفظ النفس: كل أحكام القصاص والجروح، فكل ما يؤدي إلى إزهاق روحه أو مرضه أو جرحه أو الضرر بأحد أعضائه فهو ممنوع. ويعاقب مرتكبها. ويدخل فيها حفظ عقله من أي اتلاف أو إغماء أو تغييب حسي
ويدخل في مقصد حفظ الكرامة: حفظ حريته وحقه في الاختيار وحقه في التدين، وحماية عرضه، وحفظ، وحقه في المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. ولا يقهر بدون حق ولا يكره ولا يستبد به ولا يفترى عليه أو يشوه بسمعته. ويدخل فيها حقوقه النفسية فلا تنتهك بما يؤدي لاختلال نفسيته.
ويدخل في مقصد حفظ المال: حفظ حقوقه المالية، وعدم أخذ ماله أو محاربة رزقة أو الاخلال بوظيفته.
وهذه الحقوق هي الأساسية التي شرع للإنسان أن يدافع عن نفسه ضد منتهكيها، فمن اعتدى عليه قاتله، فإن قتل دفاعا عن دمه فهو شهيد، وإن قتل دفاعا عن ماله فهو شهيد، وإن قتل دفاعا عن حريته وكرامته فهو شهيد، وإن قتل دفاعا عن اختياره لدينه فهو شهيد.
شهيد أي شاهد على قاتله يوم القيامة، وشاهد على قضيته في الدنيا.
والمسلم بمفهومه العام هو المسالم الذي سلم الناس من لسانه ويده أي سلموا من اعتدائه.
ولا يحق للإنسان أن يعتدي بنفسه على تلك الحقوق، فلا يزهق نفسه ولا يحرق ماله ولا يشق على نفسه ويحملها فوق طاقتها، ولا يتناول مع يمرضه، ولا يتلف عضوا من أعضائه، ولكن إن حصل ذلك منه، فإنها من الآثام لا المفاسد، والعقوبات الدنيوية شرعت لأجل المفاسد، أما الآثام فحسابها عند الله إن لم يتب.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.