كتابات خاصة

تعز بين تَطرُفين

بلال الطيب

تولى «المنصور» علي بن «المهدي» عبدالله الإمامة بعد وفاة أبيه «ديسمبر 1835م»، اشتهر بـ «علي مقلى». اجتاح «الإماميون» مَدينة تعز «1630م»، فأحالوها إلى قريةٍ للجبايات الكبيرة، أفقدوها رونقها وبريقها الآسر، وجعلوها تندب حظها العاثر، وتَحنُ لعصرها الذهبي الذي عاشته إبان حكم «المُظفر» و«الظافر»، وما هي إلا فترة استقرار وجيزة، بفعل ثورة «26 سبتمبر» المجيدة، حتى عاد «الظلاميون» لغيهم القديم، جعلوا من الحالمة قطعة من الجحيم، ولم يعد هناك فرق بين ماضيها والحاضر إلا في بعض التفاصيل. 

تولى «المنصور» علي بن «المهدي» عبدالله الإمامة بعد وفاة أبيه «ديسمبر 1835م»، اشتهر بـ «علي مقلى»، وضُرب به وبسفاهته المَثل، حدثت عام قيامه مجاعة شديدة، أدت لتمرد الخاصة قبل العامة، وكان من جُملة الخارجين عليه قريبه قاسم بن منصور، الذي غادر صنعاء مُغاضباً، وتوجه إلى تعز، وأعلن من هناك نفسه إماماً، وتلقب بـ «الهادي».     
زار مدينة تعز خلال تلك الفترة عالم النبات الفرنسي «بول بوتا»، وقد وصف «الهادي» بقوله: «كان قاسم يسكن حُجرة مُتواضعة، وهو يحاول بهذا أن يظهر أمام الملأ ما بين خُلقه وخُلق قريبه من بون شاسع، ويعمل على كسب الرأي العام بالتهجد والصلاة المُنتظمة والصيام.. وبدأ يلقي علي بعض الأسئلة في صوت حنون مُتواضع، وشرح لي ما تعانيه البلاد من بؤس وشقاء، ووصف حبه للشعب، وعزمه على إعادة الأمن والنظام، وخدمة الدين ونشر مبادئه».  
نقل «بوتا» وصفاً مُوجزاً لحال تعز خلال تلك الحقبة، جاء فيه: «وكانت مدينة تعز في الماضي مدينة مُزدهرة، ولكنها أصبحت مدينة مُدمرة بسبب الحروب المُستمرة.. ولم يبق من البيوت القديمة التي كانت مبنية بناءً جميلاً إلا حوالي عشرين بيتاً، وقد حلَّت محلها أكواخ بائسة، ولم يعد سكان المدينة يتجرؤون على بناء بيوت جيدة؛ خوفاً من أن تسيطر عصابات المشايخ عليها وتنهبها، كما أنَّ هؤلاء لا يكتفون بنهبها؛ بل يعمدون إلى تدميرها ونزع أخشابها للاستفادة منها».       
كانت انطباعات «بوتا» مُشابهة تماماً لتوصيفات الرحالة «كارستن نيبور» الذي زار تعز قبله بـ «128» عاماً، تحدث الأخير عن الخراب الذي لحق بالمدينة جراء صراع بعض الأمراء «القاسميين»، حيث قال: «هدمت الحرب معظم المنازل، وجعلت الحقول والبساتين شبه مهجورة»، ناقلاً وصفاً دقيقاً لحال السكان المُنهكين من ظلم الأئمة، والمُتذمرين من كل شيء حولهم، حتى من أنفسهم.   
لم يوفق «نيبور» بزيارة «جبل صبر» بسبب تمرد الأهالي على نظام الحكم الإمامي، فيما وفق «بوتا» بزيارته، أشاد به وبسكانه، وقال: «وأهالي الجبل مُتكاتفون ومُتحدون طالما تعلق الأمر بدفع عدوان، والوقوف تجاه أي محاولات لتدمير منطقتهم من قبل العصابات العسكرية، ولذا فإن منظر القرى المُتناثرة في الجبل يوحي بأنها تعيش في رخاء وأمن، كما أنَّ المُدرجات الزراعية تُعطي انطباعاً بأن الأهالي يمارسون الزراعة فيها بشكل مُستمر».
لم تدم إمامة «علي مقلى» في جولتها الأولى سوى سنة وثلاثة أشهر، قام ابن عمه عبدالله بن الحسن – الذي تلقب بـ «الناصر» – بعزله، وذلك بالتزامن مع سيطرة قوات محمد علي باشا على سواحل تهامة، لتتقدم تلك القوات صوب تعز «يونيو 1837م»، سلم لهم «الهادي» قاسم المدينة مُقابل «10,000» ريـال، وراتب شهري، وقيل أنَّه استنجد بهم، بعد أن علم بتحرك «إمام صنعاء» نحوه، توجه إلى المخا، وفيها وتحت حماية الأتراك آثر الاستقرار.
أراد «الناصر» عبدالله استعادة تعز إلا أنَّه مني بعدة هزائم، وعاد إلى صنعاء مُنكسر القوة والخاطر، وكتب إبراهيم يكن – قائد القوات العثمانية – رسالة إلى خاله محمد علي باشا، جاء فيها: «بعد ست معارك قاتل الجيش المصري فيها قتال الأبطال، والآن تحتل جنودنا المنصورة كل الأماكن التي استولت عليها، حيث يرابطون مُعتزين بما أحرزوا من مجد وشهرة، بعدما ولى الإمام الناصر الفرار إلى صنعاء، مدحوراً خائب الرجاء».
أيقن حينها «صاحب الحوليات» – وهو مؤرخ مجهول عاش تفاصيل تلك الأحداث – بـ «إدبار دولة هذا الإمام»، مُضيفاً: «وخالفت أطراف البلاد، واضطرب أمر ريمة ووصاب، وانقطع الرجاء والأمل من بلاد رداع»، أما «اليمن الأسفل»، فقد «نظم الترك أموره، وعمروا المدن والأسواق، وأمنت البلاد، وكثر المال في أيدي الأراذل»، وأحب الناس الأمير إبراهيم، وبالغوا في الثناء عليه، ووصفه بالكرم، وسعة المعرفة في الفقه والشريعة.
احتل الإنجليز مدينة عدن «يناير 1839م»، فاضطر محمد علي باشا لسحب قواته من اليمن «مايو 1940»، بعد أن حددت «معاهدة لندن» نفوذه وحكمه في ولاية مصر، سُلمت تهامة للأمير حسين بن حيدر «صاحب أبي عريش»، وصار حاكماً لها باسم «الدولة العثمانية»، أما «اليمن الأسفل» فقد خضع لحكم الفقيه سعيد بن ياسين.
 
لقي «الناصر» عبدالله حتفه منتصف الشهر التالي على يد «الإسماعيليين»، أخرج «القاسميون» محمد بن «المُتوكل» أحمد من السجن، ونصبوه إماماً، تلقب الأخير بـ «الهادي»، وتوجه أواخر ذات العام لمحاربة الفقيه الثائر، انتصر عليه بفعل الخيانة، وعادت تعز وضواحيها مرة أخرى لحكم الأئمة، و«مستوطني بكيل».
سارع «الهادي» محمد بالتواصل مع القبطان «هينس» عارضاً عليه تسليمه «تعز، والمخا، والحجرية»؛ إن هو قبل وساعده في استعادة تهامة، لم يكن باستطاعة الأخير تقديم أي دعم للإمام المُسيطر سيطرة شكلية على «اليمن الأسفل»، وإنَّما كان همه – كما أشارت وثائق انجليزية – تشجيعه على غزو لحج؛ ليضمن سلامة عدن من القبائل المُجاورة.
عاد «علي مقلى» لتولي الإمامة بعد وفاة عمه «الهادي» محمد «يناير 1843م»، لتتجدد معارضته من قبل قريبه محمد بن يحيى، وهو أمير «قاسمي» سبق وتوجه إلى تهامة قبل «15» عاماً، تبدت من هناك طموحاته السلطوية، ارتمى في أحضان الشريف حسين «صاحب أبي عريش»، والذي كان حينها قد أتم سيطرته بمساندة كبيرة من قبل قبائل «عسير – الوهابية» على مُعظم نواحي «اليمن الأسفل»، ونكل بـ «مستوطني بكيل» فيها شرَّ تنكيل، ومكنَّ «ابن يحيى» من حكم «اليمن الأعلى».
دخل «ابن حيدر» مدينة تعز مطلع العام «1845م»، «وأخرج عنها طوائف الفساد، وتحمل غرامات في ذلك»، حد توصيف المؤرخ الكبسي، وخسر في معركته مع أهالي «جبل صبر» حوالي «60» رجلاً، مقابل «40» صبرياً، كما قام بالقبض على الشيخ أحمد النجادة في أعالي ذات الجبل، ويتناقل سكان تعز حكاية أسطورية مفادها أنَّه كان يواجه «1,000» فارس بمفرده، وأنَّه لذات السبب سُمي بـ «حسين الألف».
كان «ابن حيدر» ذو نزعة «وهابية»، أرسل قبل دخوله مدينة تعز إنذاراً يطلب فيه من حاميتها الضعيفة التسليم، ذيله بشعر «حميني»، جاء فيه:
يا زائرين القُبب والمنارات
أفٍ لكم من ذا الذي تعبدونه
إن لم تعبدوا الله رب السموات
سنأتيكم بسيف لم ترونه
كما قام بعد دخوله ذات المدينة بهدم عدداً من المعالم الأثرية، كانت قبة الفقيه عبدالهادي السودي إحداها، ليقوم الشيخ محمد ناصر – فيما بعد – بإعادة إعمارها على نفقته الخاصة، لم يطل عمر القبة الجديدة كثيراً؛ فقد قام قبل أربع سنوات سلفيون تابعون لـ «كتائب أبي العباس» بنسفها، وتركها قاعاً صفصفا، وهكذا جاء «غلاة الوهابية» – قديماً وحديثاً – ليجهزوا على ما أبقاه «غلاة الزيدية»، وكأنَّ قدر هذه المدينة المنكوبة أن لا تصحوا من كوابيسها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى