كتابات خاصة

قوانين تحمي القاتل

د. عبدالله القيسي

إذن فالقاتل أحد اثنين، إما فصامي بلا إدراك، أو مجرم نزعت منه كل ذرات الرحمة ويستحق العقوبة، مع العلم أن هناك حالات فصامية تعاقب.

لازالت الجرائم المفزعة تفجعنا يوما بعد يوم، ولا زالت ثقافتنا تمدها بحبال النجاة للأسف، آخر هذه الجرائم رجل يقتل بناته الثلاث!! لسنا ندري تماما ما هي حالته، وهل يعاني من فصام أم لا، فذلك يحدده الطبيب ويحسمه القضاء، وحديثي عن الفصام سببه شدة نوع الجريمة التي لا يقوم بها رجل سوي ضد بناته، وعلى الناس أن يتنبهوا جيدا بين أن يكون هناك مرض نفسي ذهاني اسمه (الفصام) وبين ما يسمى ضغطاً نفسياً بسبب ظروف الحياة، فالظروف الصعبة والمؤلمة والحالة الاقتصادية المنهكة والضغوط النفسية والاجتماعية لا تدفع رجلاً لقتل الآخرين فكيف بقتل فلذة كبده بناته، فأقصى ما تعمله تلك الظروف هو أن تبرز المرض فقط (الفصام)، والذي تكون بذرته سابقة، ثم تساهم الظروف في استمراره حين لا يجد مالا لعلاجه.

إذن فالقاتل أحد اثنين، إما فصامي بلا إدراك، أو مجرم نزعت منه كل ذرات الرحمة ويستحق العقوبة، مع العلم أن هناك حالات فصامية تعاقب.
أيضاً ما يمكن أن تعمله الظروف السيئة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً هو إدخال فرد في حالة اكتئاب شديد، لكن أقصى ما يمكن أن يعمله من سوء هو قتل نفسه لا قتل الآخرين، وأخصائيو الطب النفسي يؤكدون ذلك.
 لكن ما يهمني أكثر في هذا الموضوع هو الجدل الذي يدور في المجتمع حول قانون في الدستور ربما يحمي القاتل من القصاص، بحجة أنه والدهن فقط، رغم بشاعة جريمته وخنقهن ثم إغراقهن في الماء!!
يقول ذلك القانون أن الوالد لا يقتل بولده، وهو قانون يعمل به في عدة دول عربية للأسف استناداً لآراء فريق من الفقهاء في المسألة، رغم أن المسألة فيها ثلاثة آراء وكان الأولى صيانةَ لدم الإنسان ومنعاً لتكرار الجريمة وعملاً بالأصل القرآني أن يأخذوا بالرأي القائل بقصاصه.
الآراء في المسألة:
ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه إذا قتل الوالد ولده فلا قصاص عليه، لحديث: “لاَ يُقَادُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ”.
وذهب المالكية إلى أنه إن قتله قتلاً لا يشك في أنه عَمَدَ إلى قتله دون تأديبه أُقِيدَ به، وإن حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل.
قال ابن رشد: وعمدة مالك عموم القصاص بين المسلمين.. وقال: إن مالكاً حمل حديث الرجل الذي حذف ابناً له بالسيف فأصاب ساقه، فَنُزِفَ جُرْحُهُ فمات على أنه لم يكن عمداً محضاً، وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن والأب.. لأن علاقة الأب مع ابنه من الحب تختلف عن الأجنبي.
وذهب ابن نافع وابن عبدالحكم وهما فقيهان مالكيان وابن المنذر، إلى أنه يُقْتَلُ به؛ لظاهر آي الكتاب، والأخبار الموجبة للقصاص.
فحاصل المسألة فيها ثلاثة آراء:
1.         الأول: أن لا يقتل الوالد بولده حتى لو ثبت أنه قتله عمداً.
2.         الثاني: أن لا يقتل الوالد بولده إلا إن ثبت يقيناً أنه قصد قتله عمداً.
3.         الثالث: أن يقتل الوالد بولده دون تفريق بين الأب وغيره.
 
أما الرأي الأول فبعيد جدا عن مقاصد الشريعة، وأما الرأي الثاني ففيه درجة من الاتساق مع مقاصد الشريعة، وفيه احتياط لآباء وقعوا في خطأ دون قصد وإن كان في صورته عمداً، وأما الرأي الثالث فهو انطلق من النص القرآني مباشرة ولم يخصصه بما ذكر الآخرون، وربما هو أقرب الآراء إلى مقاصد الشريعة حسماً من التساهل في الدماء، خاصة وقد ركن الناس إلى أنهم لن ينالوا القصاص.
ولذا لا بد من إعادة صياغة القانون في ضوء هذا الرأي أو رأي مالك على الأقل حسماً للجريمة وصيانة لدماء الناس، وعملا بأصول القرآن ومقاصده.
 
ومن القوانين التي تتساهل مع مقصد الشريعة في حفظ النفوس ذلك القانون الذي يحمي القاتل ويخفف عقوبته تحت مسمى “جريمة الشرف”، فلا يعاقب قاتل زوجته أو أخته إذا وجدها مع رجل آخر بحجة غضبه وغيرته، وهذا القانون للأسف يعطي مبررا للقتل، بل إنه يدعو للقتل، لأن الرجل الذي لا يفعل ذلك سيظن نفسه شاذاً عن الناس لا يغير مثلهم ولا يغضب مثلهم! تلك الغيرة المزيفة التي لا تراعي حدود الله وتستسهل قتل إنسان محرم الدم، ونسوا أن الآيات لم تتوعد بعذاب عظيم في الدنيا والآخرة كما توعدت به القاتل، إنها جريمة كبيرة تخالف قطعا أصول الدين ومقاصده في حفظ النفس.
لست أدري كيف تجاوزا الآيات واضحة وضوح الشمس في سورة النور وهي تتحدث عمن وجد زوجته مع رجل أخر بأن يأتي بأربعة شهداء أو الملاعنة بينهما، فمن أين جاءوا بغيرتهم المزيفة تلك التي تبيح قتل إنسان بحجة واهية، وكأنهم يقولون نحن أغير من الله ومن رسوله، هل الله لم يراعي غيرتكم تلك! أم أنه يرى أن جريمة القتل لا يوازيها جريمة.
تقول الرواية في سبب نزول هذه الآية أن صحابياً رأى مع زوجته رجلاً آخر فذهب إلى النبي يشكو فطالبه النبي بأربعة شهود أو حد في ظهره، هل كان ذلك الصحابي بلا غيرة حين رأى زوجته على تلك الحال ثم ذهب ليستقصي عن الحكم؟ هل استبدل الغيرة الزائفة باستسلامه لما يأمره الله؟ ولماذا لم تنزل الآيات لتؤيده على القتل بدل أن تأتي بالملاعنة؟ هل القرآن يشجع على عدم الغيرة يا أهل الغيرة والشرف الزائفين؟ وحتى تلك العبارة التي جاءت على لسان سعد بأنه سيقتلهما هل أقره النبي عليها؟ لا لم يقره، بل قال له أن الله ورسوله أشد غيرة منه، ولكن لكل شيء منزلته والدماء لا تسترخص بهذه السهولة، فالنفوس مقامها عند الله كبير ولا تسفك إلا مقابل نفس سفكتها.
إن القانون الذي يخفف جريمة الشرف ويمنع القصاص به مخالفة صراحة لآيات سورة النور التي ذكرت الملاعنة، فالآيات قالت لمن وجد مثل تلك الحالة أن يأتي بالشهود أو يلاعن ولا خيار ثالث أمامه.
فإن أتى بالشهود فالعقوبة ينفذها القضاء لا هو، أي ليس له أي حق في الاعتداء عليها، والعقوبة كما نصت عليها الآيات قبلها هي مئة جلدة، أما عقوبة الرجم فهي عقوبة تسربت إلينا من الثقافة اليهودية إلينا ولا أساس لها في ديننا، بل هي افتراء على الله ورسوله، والآيات قبلها ذكرت حالة الزنا وبعدها ذكرت حالة الملاعنة ولم تتعرض مطلقاً لعقوبة الرجم، فكيف يتحدث القرآن عن العقوبة الأصغر ويترك الأكبر ليختلف فيها الرواة بطريقة ظنية.. وإن لم يأت بالشهود فبينه وبينها الملاعنة.
ما كنت أتوقع مطلقاً أن يسن قانون يحمي قاتلاً، بل ويشجعه على القتل! هل وظيفة الدين والقانون إلا حماية النفس من القتل، فأين كانت عقول هؤلاء القوم وهم يسنون هذا القانون الإجرامي، وكم حصلت من جرائم بسببه، وحسبنا الله ونعم الوكيل!
إننا نريد أن نقدم للعالم رسالة الإسلام صافية نقية كما هي في كتابه، ولكن القوم يصرون على أن يصدروا للعالم عادات عبس وذبيان على أنها من الدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى