نصائح الجاحظ في التجارة ومآرب أخرى
نمرّ في هذه الرحلة مع الجاحظ كأننا نلج سوقاً بعد سوق، في مدينة عتيقة ذات أزقة ملتوية، أو من قارة لأخرى يمن مونيتور/العربي الجديد
من الصعب أن ننعت “التبصر بالتجارة” بكتاب بمعناه الحديث أو مؤلّف أو حتى رسالة من رسائل الجاحظ، نظراً لكونه موضوعاً في وريقات قليلة على كثافته. بل هو مجموعة من النصائح المكثفة في تدبير أمر التجارة والحياة أولاً، وفي المصائد التي لا يجب أن يقع فيها طالبها.
وهو أيضاً مدخل لطبائع الشعوب، مرح وجدّي، وجارح أحياناً، كما هي عادة الجاحظ، المعروف بفن السخرية الذاتية، كما في الطرفة التي يرويها عن نفسه في كتاب “الحيوان” وهي ملخّصة كالتّالي: “جاءته امرأة وقبضت بيده وساقته حتى وصلوا أمام مصوِّرٍ، وقالت له، مثل هذا! فتعجب الجاحظ، وسأل الرجل عن الأمر. فقال له لقد جاءتني هذه المرأة صباحاً، وقالت لي أريدك أن تصوّر لي وجه الشيطان، فأجبتها متعوّذاً بالله، لا أستطيع حيث إنّي لم أره قط… فأتت بك!”.
الجاحظ الذي كتب عن كلّ شيء تقريباً، إذ خاض في التأريخ، والفلسفة والسياسية وعلم الكلام وعلم الاجتماع، كما كان أحد رواد العروبة في زمنه حيث فنّد دعوى الشعوبيين، أفرد رسائل في “العرجان والبرصان” وفي “القيان” وفي “ذم أخلاق الكُتّاب” و”مفاخرة الجواري والغلمان” إلخ… هنا أو هناك ما يلفت انتباهنا هو كون الجاحظ تطرّق إلى موضوعات ما زالت تثير النفور أو الشفقة المنافقة، ما يدل على التخلّف والجهل المتفشّيين في مجتمعاتنا العربية ومجتمعات تحسب نفسها متقدمة و”راقية” كالمجتمعات الغربية.
في قصته مع المرأة وصورة الشيطان، خلا البعد “الكوميدي”، كما نقول اليوم، وكأننا أُعدمنا في ثقافتنا فن السخرية الذاتية، والهزل والمزحة والطرفة والظرف والملحة والنكتة والبسْط إلخ.. يشير الجاحظ الى وجود مهنة المصوِّر في المجتمع الإسلامي في القرن الثاني الهجري ويعطي بذلك صفعة جامْدَة لـ”أصحاب الصوّر حرام وكّله حرام….”.
لقد عنون الجاحظ مؤلّفه بكتاب التبصر – بالتجارة – وهكذا سنعتبره، والقليل من الجاحظ يكون دائماً علماً ينشط العقول والقلوب المعرضة للصدأ من قراءة الرديء.
ألّف أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري كتابه نزولاً عند طلب “أحد الأكابر”: “سألت أكرمك الله عن أوصاف ما يُستظرف في البلدان من الأمتعة الرفيعة، والأعلاق النفيسة، والجواهر الثمينة المرتفعة القيمة. ليكون ذلك مادة لمن حنّكَته التجارب، وعوناً لمن مارسته وجوه المكاسب والمطالب”.
يضع الجاحظ من البداية أهداف كتابه ويدلّنا على أنه قد يكون أوّل مؤلف في التجارة والاقتصاد، أو هو بمثابة مرجع أو سِجِل للشاري والبائع آنذاك، علاوة على أنه يخبرنا بقيمة الأشياء ويفتح باباً للمقارنة أو التأريخ لعلم الاقتصاد عند المسلمين.
ولقد اعتمده فعلاً كلّ من كتب بعده في هذا المجال كـ الوشاء (288 هجرية) في كتابه حول المجتمع البغدادي الظريف، والتوحيدي (310 هجرية)، في الرسالة البغدادية، والتيفاشي (580 هجرية)، في مؤلّفه القيم “أزهار الأفكار في جواهر الأحجار”، وهو كتاب اعتمده الغرب في معرفة الأحجار وألّفوا فيه ما لا يعدّ ولا يحصى من كتب، ومنه مخطوط في “المكتبة الوطنية الفرنسية”، بتقديم صغير مكتوب بالإسبانية… وغيره من الكتب الرائعة والمنسيّة.
يتكوّن التبصر بالتجارة من ثمانية أبواب. على سبيل المثال، يخبرنا الجاحظ في أولها، “باب معرفة الذهب والفضة”، وعلى لسان حكيم مجهول، الآتي: “يستحب من الذهب سبيكه وغير سبيكه، وأن يكون كنار خامدة وشعاع مركوم وكبريت قانئ وإنما دامت دولته لأنه لا يدحضه خبث الكير ولا يفسده مر الدهور وقيل إنما صار الذهب ثميناً لقلة تغيره وازدياد نضارته وحسنه إذا عتق، ولأن الأشياء تنقص عند المس والدفن، ما خلا الذهب، فإنه لا ينقص البتة… وزعموا أن خير الذهب العقيان وخير الفضة اللجين، ومذاق الفضة الصافية عذب، ومذاق الزيوف مرّ صدئ… وهي تقطع العطش إذا مسكت في الفم…”. وتجدر الإشارة إلى أن تعابير الجاحظ لا تخلو من رشقات سياسية تمتّع القارئ المتوقد.
ينتقل بنا الكاتب بعد هذا الباب إلى درس في معرفة الجواهر: “ومعرفة اللؤلؤ اللحمي الجوهري من الصدفي العظمي هو أن الجوهري يكون مستوي الصورة ليناً أملس، والعظمي يكون خشناً غير مستوي الهيكل… والعُماني أنفس وأرفع من القلزمي… وإذا بلغت الحبّة نصف مثقال سميت درة، والمدحرجة المعتدلة في التدور إذا بلغ وزنها نصف مثقال، ربما بلغت في الثمن ألف مثقال ذهباً…”.
نمرّ في هذه الرحلة مع الجاحظ كأننا نلج سوقاً بعد سوق، في مدينة عتيقة ذات أزقة ملتوية، أو من قارة لأخرى، مع الزبرجد والبيجاذي والبلور. إلى أنواع الطيب والعطر والروائح الطيبة، من عنبر أزرق، وعود هندي، ومسك تبتي، ومن طرائف السلع كالنمور والفيلة والصندل الأبيض والجوز، كلّها تجلب من الهند.
ومن الصين، يأتي الحرير، والكاغد (كما يسميه وينطقه المغاربة إلى يومنا هذا) أو الورق، والمداد والطواويس والديباج، و”الجواري”… ومهندسو الماء وعلماء الحراثة وبناة الرخام ويتبعها الجاحظ بـ “الخصيان”!
مع التحفظ على أشكال التجارة التي تمس كرامة الإنسان وحريته، نستنتج أن كلّ شيء يباع وكلّ شيء يشترى، وكلّ حضارة مبنية على من سبقتها وعلى اجتهادها، وعلى أخطائها أيضاً. وهذا محور من أهمّ محاور الكتاب الذي افتتح به مقدمته، ومن أبرز الأقوال التي سجلها في المقدمة، والتي يمكن للقارئ اليوم أن يتأملها على أكثر من وجه:
“قالت الروم: إذا لم يرزق أحدكم في أرض فليتحوّل إلى غيرها.
وقالت الهند: ما من شيء كثر إلا رخص، ما خلا العقل فإنه كلّما كثر غلا.
وقالت العجم: إذا لم تربحوا بتجارة فاعتزلوا عنها إلى غيرها.
وقالت الفرس: الرابح في كلّ سوق هو البائع لما ينفق فيها. ويا أيها الإنسان ليس بينك وبين بلد أنت فيه نسب!
وقالت العرب: إذا رأيتم الرجل قد أقبلت عليه الدنيا فالصقوا به فإنه أجلب للرزق!”.