بعد خروج الأتراك من اليمن، تداعى مشايخ «اليمن الأسفل» لعقد مؤتمر يقررون فيه مصير مناطقهم، التقوا أواخر «أكتوبر» من العام «1918» بـ «العماقي»، إحدى قرى منطقة الجند السهلية، بعيداً عن الشمول الذي تعمل له، وتسعى إليه الثورات المُنظمة، ورغم الجهل المُدقع، والعُزلة المُفرطة، اللذين فرضا على هذا الشعب، بدأ فكر الثورة يتسلل إلى العوام، وقامت بالفعل حركات فلاحية مُسلحة ضد حكم الإمامة، صحيح أنها لم تكن ترمي إلى إحداث تغيير جذري في النظام، إلا أنها هزت عرش الطغاة، ومهدت لزوالهم.
بعد خروج الأتراك من اليمن، تداعى مشايخ «اليمن الأسفل» لعقد مؤتمر يقررون فيه مصير مناطقهم، التقوا أواخر «أكتوبر» من العام «1918» بـ «العماقي»، إحدى قرى منطقة الجند السهلية، وهناك اتفقوا على تشكيل حكومة لا مركزية، لا ترتبط بصنعاء إلا بالأحوال الاستثنائية، تدخل حينها القاضي علي بن عبدالله الأكوع، ونصحهم بالدخول في طاعة الإمام يحيى حميدالدين.
هناك من قال بأن الإمام يحيى راسلهم وخيرهم بين الاستسلام له ولحكمه أو الحرب، والأكيد أنَّه استدعاهم، وبالفعل توجه إليه وفد منهم، كان الشيخ محمد عايض العقاب أحدهم، والتقوا به يوم دخوله صنعاء «19نوفمبر 1918م»، رحب بهم، وقدم لهم الوعود بإبقائهم في مراكزهم، وإعفائهم من أي استحقاقات مالية، فما كان منهم إلا أن بايعوه مبايعة جماعية، بعد أن رفضوا تسليمه رهائن الطاعة.
لم يكن ذلك الوفد مُمثلاً لغالبية سكان «اليمن الأسفل»، الذين لم يكونوا يرغبون أصلاً بالانضمام إلى حكم الإمامة؛ بل أنَّ بعض أولئك المشايخ لم يكونوا راضين عن ذلك الإلحاق، لتبدأ بعودتهم إلى مناطقهم الاضطرابات، وفي ذلك قال المؤرخ عبدالكريم مُطهر: «بلغ إلى مولانا الإمام حصول الاضطراب في جهات اليمن الأسفل، وعدم ثبات أقدام الذين توجهوا من المقام الشريف بعد أخذ العهود عليهم، فوقف أكثرهم موقف المـُـتردد».
فور تلقيه تلك الأنباء، سارع الإمام يحيى بإرسال «1,000» مُقاتل، بقيادة أحمد بن قاسم حميد الدين، ليتضاعف عددهم مع مرورهم من مدينة إب، وما إن دخلوا مدينة تعز – أواخر «ديسمبر 1918» – حتى قاموا بنهب مخازن الأسلحة في «قبة الحسينية» وغيرها، كما امتدت أياديهم إلى منازل المواطنين، وقاموا بالاعتداء عليها ونهبها، ونقل المؤرخ محمد المجاهد أحد تلك المشاهد المؤلمة، قائلاً: «وفي لحظات الارتباك، وفرار السكان من الغزاة، صوب أحد المهاجمين بندقيته على شيخ طاعن في السن، وأرداه قتيلاً، فالتفت أحد رفاق القاتل يعاتبه، فرد هذا ببرود: دع الناس ينقلون أخبار الغزوة، وبأنه جرى فيها قتل أيضاً».
استنجد المتضررون بمشايخ «جبل صبر، والأفيوش»، فأمدوهم بالمقاتلين، بالتزامن مع وصول إسماعيل الأسود – أحد الضباط الأتراك – قادماً من ريمة، ومعه عدد من الجنود، سلم الأسلحة التي بحوزته لثوار تعز، وشاركهم حربهم ضد المتفيدين، وأجبرو الأخيرين على مغادرة مدينة تعز بعد أسبوع من مقدمهم، أما «الأسود» فقد مضى في طريقه إلى عدن، وهناك سلم نفسه للإنجليز.
في تلك الأثناء، أعلن الشيخ «العقاب» ثورته في حبيش، وهجم وعدد من أبناء منطقته على العساكر الإماميين المتواجدين هناك، قتل منهم عشرة، وقيل أكثر، وحاصر الباقين ومعهم قائدهم عبدالله يونس في مركز الناحية «ظَلْمَة»، لتصل بعد ثلاثة أشهر قوات أخرى، بقيادة عبدالله قاسم حميدالدين، صحيح أنها لم تكبح جماح «الثورة العقابية»، إلا أنها أنقذت المحاصرين، ليلوذوا بعد ذلك جميعاً بالفرار.
و«الثورة العقابية» على أوجها، عقد مشايخ «اليمن الأسفل» مؤتمراً آخراً في مدينة القاعدة «مايو 1919م»، لم يشر المؤرخون اليمنيون لذكره، باستثناء المؤرخ مطهر الذي أشار إليه إشارة عابرة، حيث قال: «أثناء ظهور الخلاف من أهل حبيش كثر من مشايخ اليمن الأسفل التلاقي إلى محلات مخصوصة، ومن أكبر اتفاقاتهم ما حصل من اجتماعهم في القاعدة، وتداولهم للمراجعة والإفادات للخطة التي يبنون عليها».
فيما انفردت وثيقة بريطانية بالإشارة إلى نجاح ذلك المؤتمر، وأنَّ المُجتمعين اختاروا الشيخ محمد ناصر مُقبل – لم يحضر «مؤتمر العماقي» السابق ذكره – رئيساً لهم؛ لما يمتلكه من أسلحة تركية تُمكنه من مُقاومة الزحف الإمامي، وهي أسلحة كثيرة سبق للقائد علي سعيد باشا أن أعطاها الشيخ المذكور كمكافأة له ولأبناء «اليمن الأسفل» على موقفهم المُساند للأتراك طيلة سنوات الحرب العالمية الأولى، إلا أنَّه للأسف الشديد لم يُحسن استغلالها.
«الثورة العقابية» كانت ذريعة الغزو الإمامي بصورته الفظيعة، وقع الاختيار حينها لـ علي بن عبدالله الوزير أن يكون أميراً للجيش، وصدر الأمر المُتوكلي إليه بتأديب المُخالفين من أهل حبيش، وإصلاح جهات «اليمن الأسفل» قاطبة، وضمها بالقوة لحضيرة دولة الإمامة، وخاطبه الإمام يحيى مؤكداً: «حبيش وبس».
خرج علي الوزير «الذئب الأسود» من صنعاء ومعه «2,000» مقاتل، وعدد من المدافع، وما يحتاج إليه من عدة الحرب، وما إن وصل إلى «المخادر» حتى بدأ بمراسلة الثائر «العقاب» وأصحابه، عارضاً عليهم الاستسلام، ورد الأخير على رسوله بإعطائه أربع طلقات من الرصاص، وخاطبه بالقول: «هذا هو الجواب سلمه لمن أرسلك»، تقدم القائد الإمامي بعد ذلك إلى «عزلة المشيرق»، وهناك باغته الثوار، وفرضوا عليه الحصار.
دارت بعد ذلك مناوشات محدودة، أنهكت «ابن الوزير»، وأنهكت عساكره، خاصة وأن ما يصلهم من الطعام كان قليلاً جداً، يقول مُطهر: «استغنى المجاهدون بما وصل إليهم من ذلك – يقصد الطعام – فانتظم أمرهم، وكان ذلك من العناية الإلهية بالجند الإمامي، وبركة من بركات مولانا الإمام.. حتى أنك لا ترى جندياً أو أميراً إلا وهو يقول: لولا سعادة مولانا الإمام وبركاته، لما تم شيء من الظفر، ولا حصل من النصر ما يذكر».
ثمة مثل شعبي يقول: «ما تكسر الحجر إلا أختها»، وهو ما عمل عليه «الذئب الأسود» حين استعصت عليه حبيش، أستعان بالشيخين حمود عبدالرب، ومحمد عبدالوهاب، اللذين خانا «العقاب»، وتنكرا للجوار، وللعيش والملح، وساهما وبعض رعيتهما في إذلال الثوار، وقد كانت لهما مهمة احتلال «جبل العقاب»، والتضييق على سكانه، وقد كوفئ «حمود» بأن ولي عمالة قضاء العدين، فيما كانت عمالة حبيش من نصيب الثاني.
أدت تلك الخيانة إلى انكسار الثوار، وهزيمتهم، وهروب قائدهم، بعد ستة أشهر من المقاومة، استبيحت بعدها بلادهم، وعاث فيها الغزاة نهباً وخراباً، يقول مُطهر: «وتقدم المجاهدون في عزل بلاد حبيش، إلى أن وصلوا إلى ظَلْمَة، وأحرقوا أكثر الدور وانتهبوها، وتم للمجاهدين اجتياز ما مسافته نحو أربع ساعات فلكية من البلاد المخالفة. وقتل منهم كثيرون، وأسر أيضاً منهم جماعة، وأخذت رؤوس بعض القتلى، وفرَّ الباغي محمد عايض العقاب».
ثم يمضى مُطهر في نقلة لتلك الجرائم، مزهواً بانتصار الغزاة، وبما أخذوه من غنائم، فيما عمد «الذئب الأسود» على تخريب حصون الثوار، ليفد إليه أثناء مكوثه في «ظَلْمَة» عدد من مشايخ «اليمن الأسفل»، وقد «أظهروا الانقياد والندم على ما كان يبدر منهم من الميل إلى العناد»، – حسب توصيف مُطهر – أما أهالي إب فقد انفردوا – كما أشار ذات المؤرخ – بـ «الثبات على الموالاة، وإعانة المجاهدين السابقين والتالين بالكفايات من الطعام وغيره».
وعن تلك الواقعة قال أحد شعراء الإمام:
وسل عن حبيش حين زاغ عقابه
فمالت عليه بالدمار صقور
وطار بمن ساواه في البغي هائماً
وما ضمه بعد البوار ذكور.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.