إن كافة الأحداث التاريخية، بالإضافة إلى مقاصد الأحداث في العالم العربي لم تتصل بصورة أو بأخرى بالقيمة التأملية الفعلية هل يمكن أن نعدّ التأمل النقدي جزءاً من ثقافتنا؟ أم أنه أمر طارئ بدأنا نتداوله في العقود الأخيرة بتأثر من الغرب، ولكن على نطاق التداول الاصطلاحي، بمعزل عن الوظيفة الحقيقية التي ينبغي أن يضطلع بها. ينظر إلى التأمل ـ لدى البعض – بوصفها عملية عقلية، أو إجرائية تهدف إلى الوصول إلى نتائج مثالية. فالتأمل بوصفه وضعا فلسفياً يشغل قدرا كبيرا من التنظير، بل يتخلل الكثير من العلوم، سواء أكانت إنسانية أم طبيعية.
إذا ما نظرنا أو بحثنا في تعريف كلمة (التأمل) في القواميس والمعاجم، بما في ذلك مرادفات الكلمة التي تشمل المقاربة والمنظور، والبحث، والتفكر، وغير ذلك من المفردات التي تقترب من الآلية عينها، فسنجد أنها تحيل في مجملها إلى كتل من العمليات العقلية والذهنية التي تختص بمحاولة الاكتشاف، والمعاينة، كما التقييم، فهي إذن عملية تعمد إلى التعديل المستمر، بغية الوصول إلى الوضع الأفضل، أو الصيغة المثالية، وهذا يأتي بالتجاور، مع إجراءات محددة من الممارسة التطبيقية التي تطورت مع تطور العلوم الطبيعية.
إن مشتقات التأمل النقدي: الرؤية والمنظور والمقاربة، والبحث والتفكّر.. أمر يقوم بشكل محوري على المعاينة، وتقدير الانعكاس، وبهذا يضحى الشيء أو الموضوع مجالا للاكتناه، ولكن الأهم ملاحظة الأثر، وما يمكن أن يطرأ عن الموضوع بغض النظر عن ماهية الشيء. هذا التوصيف ـ لا شك – يجعلنا نقدر القيمة الحقيقة للفعل النقدي الحقيقي، أو التأملي، ومع أن الثقافة الإسلامية دعت إلى ممارسة هذا الفعل من قرون، غير أن العقلية العربية الحديثة أو المعاصرة، لم تتمكن من جعله ممارسة حقيقية ويومية، أو أن تجعله نسقا ثقافيا يطال كافة أوجه الحياة. ففي القرآن الكريم ثمة دعوات إلى التفكر والتعقل، والعديد من المفردات التي تدعو إلى ممارسة النظر، بتدبر، وهذا يأتي في سياق الانعكاس الذي يمكن أن يحدثه التأمل على السلوك، أو الإيمان، ما يعني أن هذا المسلك يقع في جزء من تكويننا العميق، بيد أننا غالبا ما نتناسى هذا الفعل، ولا نتمكن حتى من تأمل التجربة التي نعيشها، وما نجم عنها. كما أن هذا النهج لم يعدّ حقيقة فاعلاً قياساً على كم الفشل الذي يعانيه العقل العر، الذي لا يكاد يدرك إشكالياته، ولا يسعى إلى تطوير آلية تقترب به من التّعقل، وهذا لا يعني فقط المستوى الفردي، إنما يطال العقل الجمعي، فالشخصية العربية الوحيدة التي لم تتمكن من تطوير نموذج حضاري عبر تأمل حاضره، ومستقبله، حيث ما زالت تمارس الاقتتال، والقهر، والظلم، والعدوانية على ذاتها الأخرى، كما لا يفكر في أن ينتج نظاماً يتناسب مع مبدأ حتمية التطور الحضاري، حيث تتسابق الدول إلى أن ترتقي في كافة المجالات، ولعلي لا أريد أن أستعيد هنا الكثير من التجارب لدول كانت تقبع في آخر السلم الحضاري، ولكنها سرعان ما أدركت أزمتها عبر التأمل، ومن خلاله وجدت حلولا للكثير من مشاكلها.
يمكن النظر إلى الفلسفة بوصفها أقدمت على تقديم هذا المنهج في قراءة الفعل الفلسفي، ومكونات التأمل، إذ ترى المرجعيات الفلسفية الغربية معنى التأمل بأنه البحث في الشيء بتمعن وعمق، كما تشترط في جزء من هذه المنهجية تحديد المقصد من هذا الفعل، وهنا نلمس ذك القدر من الأهمية في تحديد النوايا البحثية تجاه الأمور. إن أي فعل ينجلي أو ينقضي بما في ذلك الأحداث والتاريخ والعلوم والمصادفات والأخطاء، وغير ذلك يقتضي بأن نضع هدفا للمعاينة، واختبار هذا المسلك.
إذا ما نظرنا للتأمل من منظور القيمة، فإننا سنجد أنه يمثل رأسمال معرفي، فالنظم الإدارية من أكثر الموجودات التي تحتاج إلى التأمل، ولاسيما محاولة تحديد الأخطاء أو الاختلالات المصاحبة لها.
وهذا ما نراه أيضا في المعاجم العربية التي تنص على أن التأمل يعني التدبر وإعادة النظر مرة بعد أخرى، بهدف التيقن من الشيء، بينما يرى ابن منظور بأن التأمل يعني التلبث في الأمر والنظر، أما «القاموس المحيط» فينص على قيمة مضاعفة لفعل النظر، أو التبصر ملياً بهدف التحقق أو التيقن، ولكن بإمعان، غير أنه يُلاحظ – إلى حد ما – أن معنى التأمل في المعاجم العربية قريب الصلة بما جاءت عليه المعاجم الغربية، ولكن ثمة ملحوظة، أو قصوراً، ويتحدد بأن المفهوم لم يعنَ بالخطوة التالية، التي تتطلب سلوك التعديل، فهناك تمحور حول التيقن، ومع ذلك يمكن القول بأن التأكد من الشيء يعني التحقق، ولكن هل ثمة خطوة أخرى، أو لاحقة؟ ونعني ملاحظة الانعكاس أو الأثر الناتج عن هذه العملية، وما يمكن أن نلاحظه من تحول في السلوك والممارسة بهدف إحداث تغيير في رؤيتنا أو موقفنا تجاه الأشياء، وهذا لا شك أنه نهج حيوي أو ديناميكي، في حين أن النسق الشائع في سلوكنا الجمعي «العربي» ما زال أقرب إلى وضع سكوني، نجتر تجربتنا ونعيدها بالفشل عينه، فنحن ما زلنا نسقط ديكتاتورية كي نعيد إنتاج ديكتاتورية جديدة، في حين نتعامل مع أعدائنا بالنهج عينه، كما نرتكب الأخطاء عينها، ونخطط لتعليمنا كما كنا نخطط قبل عقود، أو نضع سياسات اقتصاديات فاشلة كما كنا نقوم بذلك قبل عقود، وهكذا. ولعل السبب يعود إلى أننا لا نُخضع التجربة إلى التأمل أو البحث، إذ لا نستفيد من الأخطاء، كما لا نعدّل سلوكنا على ضوء ما خرجنا به من العملية التأملية.
إن كافة الأحداث التاريخية، بالإضافة إلى مقاصد الأحداث في العالم العربي لم تتصل بصورة أو بأخرى بالقيمة التأملية الفعلية؛ فنحن لا ندرس انعكاس الأحداث، ولا التجربة بعينها، إن مسارات التطور في العالم العربي تبنى على فعل هدم، أو تكرار للتجربة عينها، وليس بحثا في العوامل والأسباب والنتائج، فإما أن نسارع إلى فعل الإلغاء الكامل لما سبق، أو البدء بتجربة جديدة قبل أن نعرف أين يكمن الخطأ، وكيف نقوم بتصحيحه!
ولعل هذا الأثر أو المنهج لا يصنع تراكما حضاريا، بل إنه لا يكاد ينعكس على أبسط الأشياء اليومية في حياتنا، إن تنظيم الحياة بما في ذلك المدينة والمباني والهيئات الحكومية والإجراءات في الدول المتقدمة يرتبط ارتباطاً بنيوياً بالتأمل المستمر للتجربة، ومحاولة نقدها وإعادة توجيهها ، ما يراكم أرشيفاً معرفياً، كما تقاليد تكون سلوكية أو معرفية، وهذا لا يكاد يقتصر على المؤسسة أو الدولة بهيكلها، إنما على التجربة المعرفية، وهنا تظهر أهمية مدرسة «فرانكفورت» التي أحدثت تحولا حقيقا من حيث تعميق هذا النهج، فقد اتخذ التأمل أو المعاينة ذات الطابع التدبري قيمة مضاعفة، علاوة على الجدل الذي صاحب هذا المفهوم، حيث أعادت هذه المدرسة الاعتبار للتأمل، بعد أن أفسدته الصحافة التي كانت تضخم قصة ما دون الاستناد إلى وقائع حقيقية، وهنا نحيل إلى الفيلسوف هربرت ماركوزه، الذي بحث آراء الفيلسوف الألماني هيغل الذي أكّد هو الآخر على الطبيعة التأملية الجوهرية للعقل، في مواجهة الوقائع التي تصدرت المشهد بعض الشيء نتيجة تطور العلوم الطبيعية.
إذا ما نظرنا للتأمل من منظور القيمة، فإننا سنجد أنه يمثل رأسمال معرفي، فالنظم الإدارية من أكثر الموجودات التي تحتاج إلى التأمل، ولاسيما محاولة تحديد الأخطاء أو الاختلالات المصاحبة لها. إن التأمل جزء من عملية التعلم، بل إنه جوهره، ولا يمكن أن تكتمل العملية بدون هذا الفعل، خاصة المراجعة القائمة على التفكير والتدبر، حيث لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا إذا خضعت لمعايير محددة، بحيث يمكن أن تقترب من نموذج إمبريقي أو علمي، بغية الوصول إلى ما يمكن أن نعده تحققا مكتمل الأركان. والتأمل يقترب من نزعة تفكيكية، فالمعايير والأسس والقوانين، وكافة ما ينتجه الإنسان – طالما هو موجود- فلن نتوقف يوما عن التأمل والمراجعة لما نقوم به، فهذا هو مبدأ التأمل، والغرض من وجوده؛ أي أن نبقى في مخاض مستمر للارتقاء نحو المثال.
ثمة في الثقافة العربية اتجاهات فهم شديدة الراديكالية ومغلوطة لفعل التأمل بوصفه ينطوي في جوهره على عملية التحديث تاثراً بالغرب، الذي يدرك الفصل بين المبادئ التي تخضع للتأمل بهدف التحسين- ولكن بدون التضحية بها- ونموذج العمل، إذ تعدّ الأولى أسساً ينبغي تحسينها وتطويرها، وما عدا ذلك فهو عرضة للتحديث. ولعل هذا النهج هو الذي أبقى على الفاعلية الحضارية للشعوب والأمم، سواء أكانت المتقدمة أو تلك التي تسعى إلى تحقيق التقدم والازدهار.
نقلا عن القدس العربي