آراء ومواقف

سُقُطْرَى اليمن.. وأمل نشوان!

د. حازم الرفاعي

تعددت أشكال الصراع في الشرق الاوسط لدرجة أننا نسينا هل الصراع يستهدف تقليم اظافر إيران أم «الهبوط الآمن» للدولة العبرية، أم أنه اجهاض العالم متعدد الأقطاب، أم هو حصار ممرات التجارة الصينية المتنامية. لكن المؤكد ان ممرات التجارة الدولية المحيطة باليمن النائي صارت محل صراع دولي لا ولن يتوقف.

 لا يعرف أغلب المصريين والعرب اسم جزيرة سُقُطْرَى، وهي جزيرة يمنية صغيرة على مدخل خليج عدن المؤدي للبحر الأحمر. تذكرت الجزيرة البعيدة عندما سمعت خبر إنزال جنود عسكريين في الجزيرة النائية. فلقد رأيت مريضة واحدة في مطلع حياتي المهنية من جزيرة سُقُطْرَى، وكانت مصابة بتشنجات مرض تسمم الحمل. وهي علامة على التقدم الخطير للمرض، فقد ينتهي الأمر بوفاة الأم.
 في المستشفى الصغير فى العاصمة اليمنية عدن حيث عملت لفترة قصيرة علمنا أن طائرة مروحية ستأتي بمريضة في حالة حرجة من سُقُطْرَى. كانت تلك هي المرة الاولي التي اسمع فيها اسم الجزيرة وكانت أيضاً المرة الأولي التي أرى فيها تشنجات تسمم الحمل المخيفة. دخلت المرأة البسيطة المستشفى على عجالة، يصاحبها جنود يمنيون منقولة من الجزيرة ألبعيدة. كنت ساعتها طبيباً غِراً أتصور أن علاج الأمراض بالعقاقير هو الحل لكل المشاكل.
 ابتدأت محاولاتي الفاشلة للعلاج وعقدها فشل أكبر في الحصول على معلومات عن تاريخ المريضة، وإذا بي أفاجأ بأن أهل المريضة لا يتحدثون اللغة العربية إنما يتحدثون لغة شبيهة بها هي (اللغة الحِمْيَرية) مما جعل الحوار مستحيلاً. دخل أحد الاساتذة اليمنيين وسألني، فقلت إنني لم اتمكن من التحاور مع المريضة وأخبرته بما قمت به. تكاثر الحضور حول المريضة وبعد بعض الشد والجذب اتخذ الطبيب المتمكن قراراً بأن تلد المرأة فوراً بعملية قيصرية، بعد أن نهى أهل المريضة غاضباً لوصفي (بالوليد) في إشارة لصغر سني حينها.
تعددت أشكال الصراع في الشرق الاوسط لدرجة أننا نسينا هل الصراع يستهدف تقليم اظافر إيران أم «الهبوط الآمن» للدولة العبرية، أم أنه اجهاض العالم متعدد الأقطاب، أم هو حصار ممرات التجارة الصينية المتنامية. لكن المؤكد ان ممرات التجارة الدولية المحيطة باليمن النائي صارت محل صراع دولي لا ولن يتوقف.
فحتى سُقُطْرَى النائمة الهادئة القابعة على مدخل البحر الاحمر والبعيدة عن تيارات التاريخ فى العالم لدرجة أن لغتها الحِمْيَرية بقيت كحفرية لغوية تدل على ماضٍ بعيدٍ صارت محل صراع؛ فتنزل بها قوات عسكرية إماراتية فيغضب القطريون والإيرانيون وتذيعه رويترز وروسيا اليوم الخ. فالحقيقة أن توحش الاستعمار الجديد القديم لم يترك مكاناً فى الشرق إلا وصار جزءاً من أضغاث أحلامه.
تتمزق أوصال اليمن اليوم برايات مقاتلة لدول حديثة مقارنة باليمن وتاريخه العريق، ولكن الحرب لا تعرف العراقة ولا التاريخ، فهي «ليست نقيض السلام ولكنها الانهيار الكامل للإنسانية». فلا أحد يتذكر اليوم أن اليمن قد لعب دوره فى مسيرة البشرية في أزمان بعيدة، فالعالم لا يتذكر بلقيس ولا سليمان ولا الهدهد الذي أرسله مستطلعاً ثروات اليمن وصهاريجها، ولا أحد يعترف أن محاولات بناء (ناطحات للسحاب) لم تكن في نيويورك، بل كانت في شبام بحضرموت. فاليمن من صنعاء لحضرموت لسوقطرى ومن عدن والمكلا لشبوة وصعدة لعب دوره في تاريخ الحضارة الإنسانية منذ زمن بعيد ثم استتر بعيداً عن شرور العالم محتميا بالبحر الاحمر وسلاسل جباله فلم يتمكن العثمانيون من اجتياحه كما فعلوا عبر الشرق كله. ففي اليمن تتحول المدارج الخضراء الخصبة والعالية التي تقارب السماء في شمال اليمن إلى سلاسل صخريه جافه لا يمكن اقتحامها كدروب جبال ردفان وشمسان. فيبقى اليمنيون وحدهم بلا شك الأدرى بشعاب هضابهم القاسية مدببة الأطراف حول عدن، تسبح فى بحار من الضوء والرطوبة.
والصراع فى اليمن يطيح بما أنجزه اليمنيون عبر القرن الأخير؛ فاليمن بجنوبه وشماله خاض معارك الحداثة فخلعت النساء (الشيدر) وصارت (الثقافة الجديدة) هادياً لدرجة أن الإجهاض كان مقنناً مباحاً في جنوب اليمن. وامتدت شبكات الطرق والكهرباء وحملات محو الأمية تحت نجم أحمر يتوسط رايات اليمن الزرقاء بشجاعة ابراهيم الحمدي شمالاً وأفكار عبد الله باذيب جنوباً. ولكن مأساة اليمن عميقة اليوم، فالصراع الدامي لم يترك موقعاً في اليمن إلا ووصل إليه، أياً كان هذا الموقع؛ مدرسةً أو مشفىً أو طريقاً أو مصفىً للنفط أو صهاريج للمياه. فكل طريق مهما صغر في اليمن كان قفزة حضارية، وكذلك كانت كل مدرسة وكل مستشفى. فاليمن اليوم يقترب من المجاعة في بلد هو أفقر بلاد عالم العرب. ولا يملك اليمنيون أبواقاً للدعاية، ولا فضائيات لديهم ولا صحفيين يدورون في مدار عوالم المال.
وربما لا يعرف عالم العرب من خليجه إلى محيطه أن لليمن علاقة فريدة بمصر. فالمصريون واليمنيون هم الوحيدون الذين يستخدمون الجيم القاهرية دون عالم العرب كله. ولقد كانت اليمن نافذة مصر القديمة على شرق أفريقيا والهند وعالم الجنوب. فها هم اليمنيون المطلون على المحيط الهندي وخلجانه يرتدون (الفوطة) اليمنية دون عالم العرب كله. ولكن المدقق يدرك أنها رداء قدماء المصريين الذين كانوا يتمنطقون بالخنجر كما يفعل اليمنيون المحدثون. وارتبط تاريخ اليمن الحديث بمصر التي اقتحمت الجزيرة العربية من خلال اليمن. كان تأثير الوجود المصري في اليمن في عهد عبد الناصر مشابها لتأثير الحملة الفرنسية على مصر. وكان دخول المصريين اليمن هو جسر اليمن إلى الحداثة والاستقلال. ولقد كانت صيحة عبد الناصر: «على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل من جنوب اليمن» صيحة تحرر وثقة لليمنيين كلهم شمالاً وجنوباً. ولازال النصب التذكاري في اليمن للجندي المصري المجهول علامة بارزة في صنعاء، أهملها المصريون ولكن لم ينسَها اليمنيون.. ويخطئ من يظن أن ما يدور في اليمن بعيد عن ضمير العديدين حول العالم، فالعالم الذي تحول إلى قرية صغيرة يوجد به اليوم من يخشى أن تتهم أمريكا وبريطانيا يوماً بالمشاركة في جرائم الحرب لأنهما أهم تجار السلاح المستخدم في هذا الصراع.
وتلك هي خلفية تغير مواقف رموز أمريكية وبريطانية بشأن الصراع في اليمن. فلقد باعت إدارة أوباما سلاحاً بما يقارب الـ ١٠٠ بليون دولار استخدم معظمها في هذا الصراع الدموي. واليمنيون شعب معاند، وله تاريخ طويل من التمرد والبطولة، وله أساطير من الأبطال الذين خاطبهم وجدان اليمن بنشيد وكلمات باقية تحض اليمنيين على الإصرار والأمل. فها هي الأهازيج اليمنية تخاطب بطلاً يمنياً أسطوريا بقولها (نشوان لا تبكي عاد خساسة الحنشان.. ولا تبهر إذا ماتت غصون البان… الموت يا بن التعاسة يخلق الشجعان.. فكر بباكر ولا تبكي على ما كان)!.
نقلا عن صحيفة الأهالي المصرية
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى