كما حُصرت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، حصر «الهادي» يحيى الإمامة في ذرية محمد «ص»، – رغم أن النبي الأعظم لم يُعقب – وقال: «فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك في ولد إبراهيم صلى الله عليه، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله، فأفضت النبوة إليه، وختم الله الأنبياء به».
لاعتقادهم أنَّ الله مَيزهم عن الأمم الأخرى، وأنَّهم أقربُ الشعوب إليه، عمل اليهود على تأسيس أول دولة دينية في التاريخ الأنساني، تَجسدَّت فيها صورة – الحَاكم المطلق – مَبعُوث «العناية الإلهية»، وهي الصُورة ذاتها التي عَمِدَ «الإماميون» على استنساخها، وما دولة «الهادي إلى الحق»، التي أسسها في صعدة يحيى بن الحسين، إلا مثالاً ناجزاً لتلك «الثيوقراطية».
لـ «الهادي» يحيى بن الحسين، عشرات من الكتب والفتاوى الدينية، وهي بِمُجملها مَوروث ضخم، أسس من خلاله لمذهب ديني جديد، غلّفه بالسياسة، ولغمه بالعُنصرية، وانحرف به كثيراً عن المذهب «الزيدي» الأم، وجعل الإمامة فيه موازية للتوحيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصرها بشقيها السياسي والديني في ذرية الحسن والحسين، وجعل لها «14» شرطاً مُلزماً.
وكما حُصرت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، حصر «الهادي» يحيى الإمامة في ذرية محمد «ص»، – رغم أن النبي الأعظم لم يُعقب – وقال: «فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك في ولد إبراهيم صلى الله عليه، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله، فأفضت النبوة إليه، وختم الله الأنبياء به».
وتبعاً لذلك، استدل بعدد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فسرها حسب هواه، وقال أنَّ الرسول «ص» قال: «كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم، إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما»، في مخالفة صريحة لقوله تعالى: «أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله»، وأكد أنَّ ورثة الكتاب في قوله تعالى: «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا»، هم: «محمد، وعلي، والحسن، والحسين، ومن أولدوه من الأخيار»، وأكد في موضع آخر: «وتثبت الإمامة للإمام، وتجب له من الأنام فيمن كان من أولئك – أي من البطنيين – فقد حكم الله له بذلك، رضي الخلق أم سخطوا».
«الهادوية» كمذهب لا تتعايش مع مخالفيها إلا باعتبارهم تبعاً؛ بل وتكفرهم ما داموا لا يخضعون لرؤيتها وتفسيرها الديني للكون والحياة، وحينما وجد «الهادي» يحيى تخاذلاً ورفضاً من قبل بعض القبائل اليمنية لدولته الدينية، ومذهبه الإقصائي، كفرهم بالجُملة، وأعلن الجهاد عليهم، وقال فيهم:
يا أمة الكفر الذين تجملوا … بالصغر منهم طاعة الشيطان
رفضوا الهدى والحق ثم تعلقوا … وتمسكوا بالظلم والعدوان
وعصوا بكفرهم الإله فأصبحوا … مُتقلدين سلاسل النيران
والأسوأ من ذلك، إجازته لأبناء القبائل المناصرين له قتل ونهب وسلب أموال المُعارضين لدولته، المـُخالفين لمذهبه، بحجة أنهم «كُفار تأويل»، وهي الفتوى التي جاءت مُتماهيةً وطبيعة تلك القبائل المجبولة على الحروب، والمـُـنهكة بشظف العيش، وقسوة الجغرافيا.
«كفار التأويل» في مذهب «الهادي» يحيى هم المخالفون لتفسيره للنصوص الدينية، التي هي باعتقاده مُلزمة بولاية «آل البيت»، على اعتبار أنهم الركن الثاني في التشريع، مُستدلاً بالحديث النبوي الذي ضعفه كثيرون: «تركت فيكم من إن تمسكتم به لن تظلوا بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي»، وهو المدخل الذي تسلل به ومن خلاله للتحكم في مصائر الناس، وبموجبه صار كل من يخالفه «كافر تأويل»، مُستباح الدم والمال، ويؤكد ذلك قوله:
وقلت ألا احقنـوا مني دماكم … وإلا تحقنـوها لا أبالي
ولست بمسـرعٍ في ذاك حتى … اذا ما كُفْـرُ كافركم بدا لي
وحلَّت لي دماءكم بحقٍ … وإخراب السوافل والعوالي
وقطع الزرع واستوجبتموه … بما قد كان حالاً بعد حالي
مؤمنون وكفار، هكذا أصبح اليمنيون في ظل «الدولة الهادوية»، وصار هذا التقسيم بادياً بوضوح في تصرفات وأقوال الإمام المؤسس، ولا أَدلَّ على ذلك من مراسلته للدَّعام بن إبراهيم «شيخ بكيل» قبل إحدى المعارك بينهما، وقوله له: «لا تقتتل العرب فيما بيننا وابرز لي، ويوقف الناس حتى أقاتلك، فإن قتلتني استرحت مني، وعملت ما تريد، وإن قتلتك استراح منك أهل الإسلام».
ذات التصرف كرره أيضاً مع إبراهيم بن خلف أحد أمراء «بني طريف»، حيث راسله قائلاً: «عـلام يقتتل الناس ويلك بيني وبينـك، ابرز إليَّ، فإن ظفـرت بي أرحتَ منيِّ الكافـرين، وإن ظفـرتُ بك أرحتُ منكَ المـؤمنين».
وتعدى ذلك التقسيم من هم على قيد الحياة، إلى من قضوا نحبهم، وهلكوا في تلك الحروب العبثية، وهم بالمئات، وفي ذلك قال «الهادي» يحيى في كتابه «الأحكام»: «حتى سمينـا من قتله الظالمـون منا شهيـداً، وحكمنا له بالوعد الذي وعد الله الشهـداء، وسمينا من قتلنا نحن من الظلمة كـافراً مُعتـدياً، وحكمنـا عليه باستحقاق الوعيـد من العلي الأعلى».
تـعاقب على حُكـم «الإمامة الزيـديـة» بعد وفاة «الهادي» يحيى بن الحسين أكثر من «100» إمام، وما من أحدٍ من هـؤلاءِ إلا ووصل إلى الحكم على نـهـرٍ من الدمـاء؛ إما في حـروب عبثيـة اعتـادوا العيش في أجـوائها، أو في صراع أُسري بينَ إمـامٍ وآخـر، وسواء كان هؤلاء الأدعياء «علويين» أم غير ذلك؛ فمن الذي أعطاهم الحق بأن يكونوا أوصياء على الإسلام والمسلمين، وأن يتسيدوا على عباد الله، ويخالفوا دينه الحنيف، ذلك الدين الذي نصره العبيد، وخذله السادة، وقام أول ما قام على المساواة والعدالة، وعلى إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأن لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
استجلب هؤلاء الأئمة جميع مساوئ التاريخ، وغلفـوها بمساحات شاسعة من القهر، والذل، والحرمان، وشـرعنوا لحكمٍ «سلالي – كهنوتي»، كـان – ومـا يزال – سبـبـاً لجميـع رذائـلنا الاجتماعية والسيـاسية، أبدعـوا وبدَّعوا في الاستيلاء على البلادِ، وفشلوا في إدارتها؛ لأنَّ مشروعهم في الأساس قائـم على السيطرة والاستحواذ، لا الإدارة والحكم، قـادوا البلاد والعباد بما أملته عليهم رغباتهـم الفجَّـة، وفَصّلوا فقهاً سياسياً عنصرياً يشملهم بكل الخيرات، ويستثني كل اليمن.