تنتمي دراساته إلى ما يعرف اصطلاحاً بـ”نقد الحداثة” يتتبّع الناقد العراقي حاتم الصكر، في كتابه “نقد الحداثة- قراءات استعادية في الخطاب النقدي وتنويعاته المعاصرة”، الصادر حديثاً عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة، المدونات النقدية التي روّجت للحداثة وبشّرت بها أو قدمتها من زوايا متباعدة.
في 270 صفحة من القطع الوسط، يتوقف حاتم الصكر (أستاذ الأدب والنقد المقيم بأميركا) في كتاب تنتمي دراساته إلى ما يعرف اصطلاحاً بـ”نقد الحداثة”، أمام التباعد الذي يعكس البلبلة الاصطلاحية في النقد العربي وكذلك خلخلة المفاهيم والأسس النظرية حيث تُقدّم الحداثة بكونها ثوة شاملة على المُكرّس والمستقر في التراث وفي المحاولات التجديدية الأولى التي لم يكن لها أفق متسع.
يشير الصكر في مستهلّ كتابه النقدي إلى أنه “يجري الحديث دوماً عن تأخرنا في ملاحقة الحداثة الغربية التي انتهى بها زمنها خارج التداول العصري لتحل محلها تيارات ما بعد الحداثة، لكن ذلك الفارق الزمني لم يسلب التحديث النقدي العربي أهميته، إنه يتشكل عبر رؤية للحياة والثقافة والإبداع تتأسس على تجاوز التجديد الذي وسم مرحلة مبكرة من المنهجيات النقدية العربية، وهكذا أردت أن يكون عنوان كتابي (نقد الحداثة) ليستبق القراءة، ويوجهها صوب معاينة المدونات النقدية في موجاتها المتتابعة: النهضة والتجديد ثم التحديث ولم تتوقف الدراسات عند الانحياز للحداثة بل تعدتها لمناقشة ما كتب من نقد مضاد لها كتجريم الحداثة وتخوينها وإبطال مشروعها ومفعولها معاً”.
ما يميز الكتاب المعني بـ”نقد الحداثة” هو أن دراساته تتناول بواكير التجديد النقدي مقتصراً على الشعر، وهي تبدأ من مطلع القرن العشرين وربعه الأول تحديداً ممثلة بجهود رفائيل بطي في العراق، وكذلك دعوات مدرسة الديوان، ونقد المهجر ممثلاً بـ”غربال” ميخائيل نعيمة، والاصطدام بالموروث النظري عن الشعر كما يقدمه كتاب الشابي “الخيال الشعري عند العرب”، ومراجعة التراث الشعري بمشاكسة منهجية وتاريخية يمثلها كتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي”، ويمتد ليشمل الدراسات الاجتماعية عبر كتاب “وُعّاظ السلاطين” لعلي
“الفارق الزمني لم يسلب التحديث النقدي العربي أهميته. إنه يتشكل عبر رؤية للحياة والثقافة والإبداع تتأسس على تجاوز التجديد الذي وسم مرحلة مبكرة من المنهجيات النقدية العربية” الوردي، وصولاً إلى ما قدمه محمد عابد الجابري في تحديث الرؤية العقلية للفكر العربي، لتنتقل الدراسات إلى معاينة الاستشراق وكشف خطابه عبر كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق” مروراً بعتبات التجديد المفصلي الهام في النقد الشعري والتنظير للشعر الجديد ممثلاً بكتاب نازك الملائكة “قضايا الشعر المعاصر”.
مقاربة المعارك الأولى
يشكل الكتاب مراجعة غاية في الأهمية والجِدّة في نقد النقد يشتغل عليها حاتم الصكر استمراراً لمشروعه النقدي لا سيما نقد حداثة الشعر المكتوب بالعربية، إذ يتناول المنهجيات الحديثة الأقرب إلى زمننا، ممثلة بكتب لأهم الأسماء التي حركت التفاعلات في النقد كأدونيس وجبرا إبراهيم جبرا وإحسان عباس وعبد الله الغذّامي وجابر عصفور وكمال أبو ديب وعبد العزيز المقالح وسعيد يقطين وحركة النقد الحديث في العراق.
كما تقف دراسات الكتاب أمام قضايا نقدية تبناها النقاد الحداثيون، كالموقف من قصيدة النثر ومعضلات تلقيها، والنقد الثقافي وإمكان إحلاله بديلاً للنقد الأدبي، ومقولة زمن الرواية وتراجع هيمنة الشعر، وموقف النقد من تغيرات الشعرية العربية بفعل الاستجابة لنداءات الحداثة وإغراءاتها، عبر قراءات استعادية أو قراءات الذكرى كما أسماها الصكر “في سياق دفاعه عن المقاربات التي تسوقها الذاكرة وتختبرها القراءات الاستعادية ومقامات التلقي وتبدلات الفن الشعري كنوع من جهة، وتبدلات القراءة والتلقي من جهة ثانية”.
استنفار ذاكرة المتلقّي
يؤكد الصكر تبسيط رؤيته لمغزى “القراءة الاستعادية” التي لطالما شُغِل بها خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وكانت ثمرة ذلك كتابان في استرجاع نصوص شعرية، لها ما يقرب من الدويّ بكيفيات مختلفة فنية وسياسية واجتماعية، ثم “بعد رصده لتلقي القراء لعمله الاسترجاعي أو الاستعادي، يجد أنّ ما أسماه قراءة الذكرى قد وافق أفقاً مماثلاً لدى المتلقي الذي استُنفِرت ذاكرته ليستعيد لحظة نصية ماضية أو قريبة العهد أحياناً؛ ليؤلف سيرة جديدة للنص تحُفُّ به حياة موازية تتركب من سياقات ولادته وخروجه للنور ومحاورة المحيط له، كما تندغم -أيضا- في ذلك أصداء سياسية وثقافية واجتماعية وفنية؛ لتعقد صلة الذكرى وآليات الاسترجاع”. على أن “ما نقوم به عبر هذه القراءات (كما يُبيِّن الصكر) ليس مهمة فردية تلعب فيها الذات دور معلم النصوص أو قابلتها التي تشهد على فيزياء جسدها وعناء ولادتها، قدر اتخاذ القراءة مناسَبة لفحص سياق كتابة النص، وموقعه في الوجود النصي للنوع الذي يندرج فيه، ومدى
التعديل الذي أضافه والمهيمنات الفاعلة في إنتاجه وبناه النصية، وعلى مستوى جمالي تسعى القراءة الاستعادية لفحص صداه على الذائقة العامة وتلقّي القراءات المعاصرة له، وبذا يتمدّد التحليل النصي والسياقي ليشمل الجانب الثقافي في عملية القراءة، كون القارئ بحسب النظريات ما بعد البنيوية ووفق موقعه في التلقّي هو الطرف الفاعل في وجود النص وإعطائه معناه، وكشف بؤرته المشعة في ثناياه وطبقاته المختفية وراء أو تحت أبنيته، وكذلك دلالاته ومغازيه وإيقاعاته وصلته بسواه من النصوص، إذ أنّ كثيراً من تفاصيل حياة النصوص قد صنعتها القراءات السياقية وردود الأفعال والأصداء المتجاوبة مع نداءات النصوص وبرامجها ونياتها”، وبناءً عليه “يمكن للذكرى أن تتمرد على الغنائيات المنفعلة والتناغمات أو التباعد والتنابذ في سياق محبة أو كره النصوص المنتزعة من سياقاتها، ويتجدد العود لتلك النصوص التي بالمناسبة لا تتحدد في قائمة أولويات بل في انتقاء شخصي ليس السياق العام بمنأى عنه”.
كما يخلص، في ختام تقديمه للكتاب، إلى القول: “هكذا كانت الذكرى والذاكرة ضمن عنوان كتابَيّ: في غيبوبة الذكرى 2009 وقصائد في الذاكرة 2011، ولا حاجة بي لتأكيد عائدية فِعلَيْ التذكر والاسترجاع لا على الكاتب- القارئ شخصاً، ولكن عليه بكونه متقبلاً تتحكم فيه أعراف قراءةٍ وتقاليد تقبُّلٍ تحدد صلته بالنصوص، وإني لطامح أن يكون كتابي هذا مواصلةً لجهدي الاستعادي في كتبي الأخيرة تلك وفي اللحظة الشعرية التي يرصدها النقد الأدبي العربي”.
بين نقد النقد والقراءة الاستعادية
يبدأ الكتاب بملخص عام تحت عنوان “الحداثة بين نقد النقد والقراءة الاستعادية”، ثم تتوالى دراساته (رفائيل بطي: من مضيق التقليد إلى فضاء الإطلاق؛ الديوان: مفارقة التنظير والتنظير والنقد والتجريح؛ الغربال لميخائيل نعيمة: غربلة النصوص بالجرأة والصراحة؛ الخيال الشعري عند العرب للشابي: أمة بلا خيال؛ في الشعر الجاهلي لطه حسين: إسقاطات المنهج وضرورات التغيير؛ تحرير المرأة لقاسم أمين: المرأة إنسان يعقل ويريد؛ محمد عابد الجابري: تحرير عقل سكت عن نفسه؛ علي الوردي: النفس ليست ثوباً يغسل بالوعظ؛ ريادة
“تقوم “القراءة الاستعادية”، والمنهج الذي اعتمد عليه حاتم الصكر في واحد من أهم وأحدث كتبه في “نقد الحداثة”، على إجراءين أساسيين، الأول: “تحديد الدوافع التي أثّرت على الكاتب أو الناقد وشكّلت وعيه، الثاني: “دراسة أثر تلقّي المادة المكتوبة على محيطها الاجتماعي”
التنظير في قضايا الشعر المعاصر لنازك الملائكة: الهروب من تناظرات المنزل وبيت الشعر!؛ جبرا إبراهيم جبرا ناقداً شعرياً؛ الوثائقية في اتجاهات الشعر المعاصر لإحسان عباس: حقيقة الشعر لا التاريخ؛ أقنعة الاستشراق لدى إدوارد سعيد: الشرق بكونه اختراعاً غربياً؛ صراع الإتّباع والإبداع.. الثابت والمتحول لأدونيس: صدمة الحداثة؛ قراءة أدونيس نقدياً: الشفرة والدال السير ذاتي نموذجاً؛ ثنائية الخفاء والتجلّي لدى كمال أبو ديب: صرامة البنيوية واكتناه الأعماق؛ الأنساق الثلاثية في تجربة المقالح النقدية: نقد النقد والأصوات الشعرية؛ عبد العزيز حمودة وتجريم الحداثة عبر المرايا المُحدّبة: إضاءة النصوص أو إضاعتها؟؛ زمن الرواية لجابر عصفور: الانقلاب على تراتب الأجناس الأدبية؛ الشبيه المختلف: عبد الله الغذّامي والنقد الثقافي؛ التراث والسرد: تجربة سعيد يقطين؛ تجربة النقد الأكاديمي: المدرسة وتحديث النقد المنهجي؛ فصول من حكاية النقد العراقي؛ قصيدة النثر وحجاب التلقي: انتقائية المقترح والنصوص).
وتقوم “القراءة الاستعادية”، المنهج الذي اعتمد عليه حاتم الصكر في واحد من أهم وأحدث كتبه في “نقد الحداثة”، على إجراءين أساسيين، الأول: “تحديد الدوافع التي أثّرت على الكاتب أو الناقد وشكّلت وعيه ورسمت الهدف من وراء كتابته”، الثاني: “دراسة أثر تلقّي المادة المكتوبة على محيطها الاجتماعي، وفيما لو أن الكاتب راجع نفسه ثم ذهب إلى التعديل في مادته الأصلية (في الشكل والمضمون على السواء) لكي تكون أكثر تناغماً مع محيطها”.