كان أبي يعشق صوت عبدالباسط عبدالصمد.. وكان في الوقت نفسه يعشق صوت أيوب طارش.
كان أبي يعشق صوت عبدالباسط عبدالصمد.. وكان في الوقت نفسه يعشق صوت أيوب طارش.
كان مسلماً نموذجياً ومؤمناً حقاً.. ولم أكن أسمعه ينطق بالتحريم في غير موضعه، ناهيك عن التكفير.
أبي هو واحد من ملايين المسلمين الذين عرفوا الله محبةً ورحمةً وسماحةً ورحابة. عرفوه في آيات القرآن الكريم ونصوص الحديث الصحيح. عرفوه بالعقل والقلب ومكنونات الطبيعة.
وفي سنوات الثمانينات، وجد هؤلاء اسلاماً جديداً يظهر عليهم من وراء قرون سوداء في أكمة جرداء، لم يكن يوماً معروفاً لهم قط ولا للذين جاؤوا من قبلهم بقرون.. إنما ظهر فجأة كنبت شيطاني.. ولم يدرِ أحد لأول وهلة كيف بدا صغيراً، ورويداً راح ينمو كبيراً، حتى تضخّم وتعملق، فاذا بها قد تحطمت تحت سطوته كل الجدران والأسقف في المدارس والمساجد والبيوت والجامعات والمؤسسات والجيوش!
كل ما سمعه الناس حينها هو تسمية “الصحوة” التي أُطلِقت عليه.. وكل ما رأوه هو جيل جديد من الدعاة وجيش جرار من الأتباع، معظمهم من القُصَّر ومحدودي الوعي ومنعدمي الرأي ومسلوبي الارادة.. وكل ما قرأوه واستمعوا اليه لم يكن سوى طبعات جديدة من الفتاوى والتعاليم والفقه الشائه، ينشقّ عنها قاموس لم يألفه المسلمون من قبل، كل مفرداته تنضح بالدم والبارود.. وقد صارت كلمة الحرام أكبر مليون مرة من كلمة الاسلام نفسها، فيما راح ضباب التكفير يملأ الكون الفسيح على نحو يُنذر بالغاشية!
وقد سالت دماء غزيرة تحت قنطرة “الصحوة” تلك.. وتعاظمت مصائب وخرائب في معظم بلاد العرب والمسلمين.. وبدت الفتوى الجديدة سيدة الزمان والمكان والحدث، أقامت دولاً وأطاحت حكومات، وفجّرت حروباً وأنشأت جيوشاً.. وما كان لشيء أن يقف قبالة كل هذا طالما البترول يضخ بسخاء في أرض الجزيرة!
وقد طفق مخترعو “الصحوة” ومهندسو ماكنتها يؤسسون لنقلة نوعية خطيرة في مضمارها الزلزالي أطلقوا عليها مسمى “الجهاد”. وقد تدفقت إليهم أموال وأسلحة وأدوات بلا حد، وانتظم عدد غفير من الشبان، يدفع بهم أمراء الجهاد وشيوخ الفتوى إلى مذبحة تليها محرقة وإلى فتنة تليها كارثة.. مرةً بدعوى تحرير القدس، وأخرى بدعوى مكافحة الشيوعية في أفغانستان، وثالثة بدعوى انقاذ المسلمين في البوسنة والشيشان..
غير أن ذلك الجيش الفتي العرمرم الذي شكّلوه ونظّموه وجنّدوه وجهّزوه لمقارعة الجبروت الشيوعي والطغيان الملحد صار مصدر خطر وبؤرة قلق لمن دعا وأفتى وخطّط ونظّم ودفع وضخ لتشكيله وتوجيهه، فإذا بالجهاد المزعوم صار يحمل تسمية أخرى ومفهوماً مغايراً بحسب هوى المركز المؤسس.. فقد أقتضت الضرورة وفرضت المصلحة تعديل الغايات وبالتالي تبديل الوسائل.. ولذا صار الجهاد ارهاباً والمجاهدين ارهابيين!
وما يزال المسلسل مستمراً.. غير أن الطامة الكبرى أن اللجام لم يعد في يد قادة القطيع.. إنما صار في قبضة الشيطان!
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.