كتابات خاصة

المساواة في القصاص

د. عبدالله القيسي

وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: “لا يَزَالَ الْمُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ من دِينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا”(صحيح البخاري).

لم أجد عقوبة ذكرها الله في كتابه أعظم وأقوى من عقوبة القاتل، فقد جمعت عقوبته بين الخلود في جهنم والغضب واللعنة والعذاب العظيم قال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ النساء:93.

وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: “لا يَزَالَ الْمُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ من دِينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا”(صحيح البخاري).
هذا الحديث كما أفهمه في ضوء رؤية الإسلام للذنوب والسيئات والتوبة منها، يعني أن أي ذنب اقترفه المسلم بحق من حقوق الله الخالصة فإنه يستطيع أن يتوب عنه حتى لو كان أعظم الذنوب وهو الكفر والشرك، فما زال في الدنيا فسحة للعودة والتوبة إلى الله، والله سبحانه رحيم بعبادة فتح لهم باب التوبة حتى الموت.
وكذلك كل جرم ارتكبه بحق من حقوق العباد -عدا القتل- فما يزال له فسحة لأنه يمكنه أن يطلب من المجني عليه أو المعتدى عليه السماح والعفو في الدنيا، وربما عفا عنه وسامحه وربما أخذ القصاص.
لكن في حالة القتل فإن المجني عليه لم يعد موجودا ولا نستطيع أخذ عفوه أو مسامحته ولذا فإن القاتل يبقى معلقا حتى يلقاه في الآخرة حتى لو تم القصاص منه في الدنيا، وحتى لو تاب، لأن القصاص حق لأهله وربما سامحوا وأخذوا الدية، والتوبة حق لله سبحانه، ويبقى حق المقتول الذي قتله بلا ذنب إلى الآخرة معلقا برقبة القاتل، ومن هنا كان المؤمن في فسحة من دينه ما لم يسفك دما حراما.
أما ما يحتاج إلى نقاش في هذا المبحث فهو قضية المساواة بين أي قاتل معتدي ومقتول معتدى عليه سواء كان القاتل مسلما والمقتول كافرا، أو كان القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل رجلا والمقتول امرأة، وقد ناقش الفقيه الحنفي القصاص في كتابه أحكام القرآن هذه القضايا بشكل مفصل، عند شرحه لآية البقرة (178).
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ البقرة (178).
هذه الآية تتحدث في أولها عن حكام عام وهو القصاص في القتلى أي قتلى، ثم بينت حكم ما إذا قتل أحد الأنواع من يماثله كالحر إذا قتل حرا والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولا يفهم منها أنها خصصت الأنثى أو العبد، فهناك إجماع على أن الذكر يقتل بالأنثى والأنثى بالذكر.
يقول الفقيه المالكي القرطبي: قالت طائفة جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد وذكره أبو عبيد عن ابن عباس.
يقول الفقيه الحنفي القصاص: وأما قوله: ﴿الحر بالحر والعبد بالعبد﴾ فلا يوجب تخصيص عموم اللفظ في القتلى، لأنه إذا كان أول الخطاب مكتفيا بنفسه غير مفتقر إلى ما بعده لم يجز لنا أن نقصره عليه.
وقوله: (الحر بالحر) إنما هو بيان لما تقدم ذكره على وجه التأكيد وذكر الحال التي خرج عليها الكلام، وهو ما ذكره الشعبي وقتادة: أنه كان بين حيين من العرب قتال وكان لأحدهما طول على الآخر، فقالوا: لا نرضى إلا أن نقتل بالعبد منا الحر منكم وبالأنثى منا الذكر منكم! فأنزل الله: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) مبطلا بذلك ما أرادوه ومؤكدا عليهم فرض القصاص على القاتل دون غيره، لأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، فنهاهم الله عن ذلك.
وقال في موضع آخر: وذلك لأن العرب كانت تتعدى إلى غير القاتل من الحميم والقريب، فلما جعل الله له سلطانا نهاه أن يتعدى وعلى هذا المعنى، قوله تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لأنه كان لبعض القبائل طول على الأخرى فكان إذا قتل منهم العبد لا يرضون إلا أن يقتلوا الحر منهم، وقال في هذه الآية: لا يسرف في القتل بأن يتعدى إلى غير القاتل.
أما مسألة مساواة المرأة بالرجل في القصاص ففيها إجماع، يقول القرطبي: أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل.
وأما مسألة قصاص الحر بالعبد فروي عن علي وابن مسعود وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى، وداود الظاهري، واختاره ابن تيمية.
يقول القرطبي: واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة.
ويقول ابن قدامة: ويروى عن سعيد بن المسيب، والنخعي، وقتادة، والثوري، وأصحاب الرأي، أنه يقتل به، لعموم الآيات والأخبار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المؤمنون تتكافأ دماؤهم}. ولأنه آدمي معصوم، فأشبه الحر.
أما مسألة قصاص المسلم بغير المسلم المعاهد فقال بها الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه.
ومما استدل به الحنفية قوله تعالى ﴿أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ فهو حكم عام بين كل نَفْسيْن. وردوا الروايات التي قيل أنها خصصتها، واستدلوا بروايات أخرى تدعم عموم الآية.
قال ابن قدامة: وقال النخعي والشعبي، وأصحاب الرأي: يقتل المسلم بالذمي خاصة.
ولو تأملنا قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ سورة النساء(94). لوجدنا فيها الإجابة لهذا الموضوع فالآية ببساطة تقول:
أيها المؤمنون لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام والعهد -ولم يلق إليكم العداوة والحرب- لست مؤمناً، فتلحقوهم بحكم المحاربين غير المسالمين، بل هم في حكم المؤمنين، فلا يجوز قتلهم عمدا، ومن قتلهم عمدا فحكمه حكم من قتل مؤمنا. وما فسره المفسرون بأن المعنى هنا من إلقاء السلام هو الإسلام تأويل فيه بعد عن ظاهر الكلمة، فاللفظ يتكلم عمن يلقي إلينا السلام وليس الإسلام، وحتى من قال: يلقي إلينا التحية التي هي شعار على إسلامه، فقد ربطها بالإسلام والآية لم تذكر ذلك، ثم إن الآية تذكر إلقاء السلام إلينا لا علينا، وهذا بنظري لا يكون إلا السلام الذي هو مقابل الحرب والقتال، وهو الذي ذكرته الآيتان رقم 90 و91 اللتين سبقتا هذه الآيات، فسياق الآيات كلها واحد، يقول تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾، ﴿فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ﴾.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى