جاءني أحد الأصدقاء وقال لي: لدي مبلغ من المال لا بأس به وأريد وقفه في أحد الأعمال الخيرية التي يستمر أجرها لي.
جاءني أحد الأصدقاء وقال لي: لدي مبلغ من المال لا بأس به وأريد وقفه في أحد الأعمال الخيرية التي يستمر أجرها لي.
قلت: ما أكثر المشاريع التي يحتاجها المجتمع ولا أحد يتنبه لها أو يدعمها.
قال : مثل ماذا ؟
قلت: هي كثيرة وإليك بعضها: يمكن أن نبحث عن بعض الطلاب الذين تخرجوا من الجامعة ولم يجدوا عملا فندعمهم ليعملوا في تخصصهم الذي درسوه.
قال: أريد غيره.
قلت: يمكن أن نبحث عن بعض الأسر التي أثقلتها الديون ونسدد ديونها.
قال: أعطني مشروعاً غير هذا.
قلت: لدي مشروع ولا يتنبه له الكثير وهو أن تقوم بدعم بعض الشباب العاطل بتمويل مشروع صغير حتى ينجح في عمله ويبقى دينا عليهم إلا أن يفتح الله عليهم ولو بعد سنين طويلة ومن لم يستطيع ذلك فهو مسامح وحين يسددوا هذا المبلغ تجعله في دين آخر وهكذا . وفيه أجر كبير وفك عسر الناس ومشاركة في تنمية البلاد والقضاء على البطالة.
قال: بصراحة أنا أريد أطبع مصحفا أو أبني مسجدا، وانتظرت أن تدلني على ذلك.
قلت: لماذا ؟
قال: أليس كل من يقرأ حرف من ذلك المصحف سيكون لي مثله، ومن صلى في المسجد سيكون لي مثل صلاته؟
فقلت: حسبي الله ونعم الوكيل، إذن حكام العرب الذين قتلوا شعوبهم واستبدوا بها وأفقروها ثم طبعوا المصاحف وبنوا المساجد سيكونون في أعلى عليين في الجنة إذا كان على هذا الحساب.
انفعلت قليلا وقلت: ماذا عمل بكم الخطاب المغشوش للدين وكيف انتشر هذا التدين المغشوش ؟!
قال: كيف ؟ أليس هذا عملاً عظيماً وفيه أجر كبير؟
قلت : نعم يكون عملا عظيما حين نحتاج إليه، ولا يكون عملاً عظيماً حين لا نحتاج إليه، أَمَا ترى المساجد والمكتبات مليئة بالمصاحف, والمساجد كذلك كثيرة والحمد لله!
وفي المقابل ألا ترى الأمة لا زالت تعاني من تخلفها وفقرها وضعفها, لأننا تركنا أبوابا كثيرة من العمل واكتفينا بأبواب محدودة فقط.
قال: لكن تلك الأعمال فيها أجر كبير.
قلت: ومن قال لك أن الأجر غيرُ كبير في غيرها ؟!
أليس في مساعدة الناس بأموالك في عمل مشروع ينقذهم وينقذ أسرهم من الفقر وملحقاته أجر عظيم؟ لماذا نحصر العمل الصالح على باب واحد؟ لماذا نتزاحم على بابين أو ثلاثة ونترك بقية الأبواب؟
يا صديقي حين بنى النبي عليه السلام المسجد ورغب في بنائه لم يكن يقصد من بنائه الصلاة فقط، فالأرض كلها جعلت مسجدا وطهورا، ولكنه كان أيضا مكانا للتعليم ومكانا للاجتماع السياسي بجماعة المؤمنين، ومكانا للتشاور، ومكانا لاستقبال الوفود الأجنبية، ومأوى للفقراء من أهل الصفة، بل كان الحبشة يلعبون في المسجد في العيد بالدرق والحراب كما قالت عائشة، وهذا يعني أنه مكان اجتماع للأفراح باللعب …الخ من استعمالات المسجد المتنوعة.
لكن مع تطور الحياة وهذا شيء طبيعي انفصلت كل تلك الأجزاء عن المسجد فصار هناك جامعة ومدرسة للتعليم ووزارات للشأن السياسي، وقصور وفنادق لاستقبال الوفود، ومساكن خيرية للفقراء، وحدائق للعب… الخ.. بعد أن كان المسجد يشملها جميعا.
هذا يعني أن أجر بناء المساجد لم يعد اليوم مقتصرا على بناء المسجد فقط، وإنما يشمل كل تلك الاحتياجات للناس، من بناء مدرسة أو جامعة أو مسكنا للفقراء أو حديقة أو تعبيد طريق ….الخ كل ذلك يندرج ضمن ما كان المسجد يقدمه..
لقد انحصر دور المسجد اليوم إلى إقامة الشعائر فقط، وليس من المعقول أن تتجه أعمال الخير كلها لبناء المساجد فقط وتتوقف أعمال الخير أو تقل في الأعمال الأخرى التي كان المسجد قديما يغطيها..
فمن بنى لله مدرسة، ومن بنى لله مستشفى، ومن بنى لله حديقة ومن بنى لله وقفا خيريا وووو كلها كأجر من بنى لله مسجدا، وقد يكون الأجر أكبر من بناء المسجد في حال احتياج المجتمع له، فدرجة احتياج المجتمع ترفع في الأجر لأنها تسد حاجة أو ضرورة أهم.. فالمجتمع الذي يحتاج لطريق في أقاصي القرى سيكون أجر ذلك العمل أكبر من أجر المسجد..
وما زلت أقنع صاحبي بما أراه وأتحسر لما انتشر بين الناس من سوء فهم سببه الخطاب المغشوش ممن يتصدر لوعظ الناس قبل فهم حقيقة الدين واستيعاب مقاصده.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.