خلال السنوات الأخيرة بات التّطرف والشطط مساراً شبه إجباري لتفكيرنا وسلوكنا، ولم يعد خاصاً بفئة دون أخرى أو مقصوراً على توجه فكري وسياسي دون سواه، فالمتديّن يغلو في تديُّنه إلى درجة الانحراف، والمتسيس يتمادى في سياسته إلى درجة الفُجور، والمتَعَلْمن يبالغ في عَلمانيته إلى درجة الشَّطط. خلال السنوات الأخيرة بات التّطرف والشطط مساراً شبه إجباري لتفكيرنا وسلوكنا، ولم يعد خاصاً بفئة دون أخرى أو مقصوراً على توجه فكري وسياسي دون سواه، فالمتديّن يغلو في تديُّنه إلى درجة الانحراف، والمتسيس يتمادى في سياسته إلى درجة الفُجور، والمتَعَلْمن يبالغ في عَلمانيته إلى درجة الشَّطط، حتى أصبحنا نشهد بعض الكتَّاب يُغيْرُون على «القرآن» و«الرسول» بكل ما أوتوا من جرأة، لا لشيء إلا لينفِّسوا عن سخطهم على بعض المنتسبين إلى الإسلام، مستغلِّين تذمر المجتمع وانزعاجه من سوء سلوك بعض الجماعات التي ترفع شعارات الإسلام في صراعاتها السياسية، ويستحضرون إلى جانب ذلك تراث أشباههم من فُرقاء الماضي، سواء ما جاء على شكل حكاية لأفعالهم وأقوالهم التي ليست حُجَّة على أحد، أو ما جاء على شكل روايات استحضروها لتبرير أخطاءهم ووحشية صراعاتهم، دون مراجعة لصحة نسبتها إلى الرسول الكريم، أو فحصٍ لمدى دقَّة ما فسروا به تفسير القرآن العظيم.
وهذا ما يجعلنا نرى أن الظاهرة العلمانية صارت – كغيرها من النظريات – مرتعاً للنَّفس المزاجي، وأخذت تتجه نحو التَّحول من نظرية للحياة قائمة على مبدأ التعايش إلى نظرية صِدَامية تمضي نحو متاهة التطرف الذي وقع فيه مَنْ يستوحشون منهم، حتى أصبحنا نعيش بين تطرُّفين: تطرف بعض المتديّنين وتطرف بعض المُتَعلمنين، وبهذا لم يضف بعض الحداثيين شيئاً سوى خَلق تيار جديد من تيارات الصراع والخُصومة والعداوات، يألَفُ فيه كلُ فريق من يوافق ويستوحش ممن يُخالف، وهذه المشاعر مهيأة للتطوير حتى يرى المتعلمنون أن الحياة لن تستقر إلا بإبعاد مُخالفيهم عن الحكم وإدارة شأن الحياة مهما كانوا عقلاء متحررين من النَّظريات السلبية والموروثين الخرافي والأسطوري معاً، وعلى هذا لن تلبث مشاعرهم طويلاً حتى يحكموا على فُرقائهم بأنهم «كفار الحياة»، ويطالبون بزوالهم لكونهم يمثلون خطراً عليها، فيقعون في نفس ما وقعت فيه الجماعات الدينية من أفكار سوداويَّة جعلتهم يحكمون على مخالفيهم بأنهم «كفار الدِّين» وأن الدين لن يستقيم إلا بإخراجهم من الوجود.
إن التطرف العلماني الذي باتت ملامحه تبرز يوماً بعد يوم لن يكون أقل بلاء من تطرف الديني؛ لأن العُقدة التي ينطلق منها هؤلاء هي نفس العُقدة التي انطلق منها أولئك، وأساسها أن الآخر مُفسدٌ للحياة وقاصرٌ عن معرفة فلسفة الوجود، ومعيق للخير فلابد أن يزول.
وفي سبيل ضبط حالة التحول ندعو إخوتنا المتعلمنين إلى تصحيح مسارهم حتى لا يُوقعون أنفسهم ويوقعون المجتمع معهم في ورطة تعصب جديد، وخصومة لا ينفك عنها إلا بمعارك طاحنة تحت عناوين جديدة، وفي هذا المَوْرِدْ نتمنى عليهم الآتي:
1.قدموا لنا العلمانية بمفاهيمها الإنسانية واتركوا الدين جانباً لا تجعلوه هدفاً لسهامكم فتفسدوا علمانيتكم بالشطط والجدل النَّظري، كما أفسد إخوانكم دينهم بالغُلوِّ وحوَّلوه من قِيَم إنسانية إلى مجرد نظريات وطقوس يتبارون في إبرامها ونقضها، وانشغلوا – عن كل شيء – بالتفكير في كيفية القضاء على مخالفيهم.
2.ابتعدوا عن تقديس نظريات أئمتكم في العلمانية وتمجيد أسلافكم فيها، وهوّنوا من الحث على حفظ نصوصهم وترديد تجاربهم وسيرهم، وتوقفوا عن التهويل علينا بأساطيرهم كما فعلهم فرقاؤكم المتدينون الذين حولوا موروثهم البشري من تجارب حياة إلى تشريع ديني وسُنَّة إلهية تخضع حركة الكون لتأثيراتها.
3.اخرجونا من الجدل البيزنطي في الأسماء والمصطلحات حتى لا تعودوا بنا إلى المربع الأول وتدوروا بنا في حلقة الجدل النَّظري، وحاولوا أن تتجاوزوا مجرد نقد الآخرين والتربص بهم ونقض ما قدموه، وحرروا أنفسكم من التمترس خلف دعوى «نحن خير منكم» دون أن تقدموا نموذجاً عملياً مختلفاً يحِلّ مكان النماذج الأخرى التي تمقُتونها.
4.تذكروا أنه لابد لأي نموذج ترغبون في تقديمه أن يستوعب الإنسان، ويحقق العدالة والحرية للجميع بمن فيهم الجماعات الدينية المتطرفة، لكونهم جزءا من المجتمع، أما إذا اشترطتم زوالهم أولاً أو زوال من يخالفكم، فذلك هو شَرْطُهم فيكم، فما الفرق إذن بينكم وبينهم، وما الذي يُميز رؤيتكم الإقصائية عن تجربتهم الاستبدادية.
5.لا تزايدوا بتجارب الآخرين في بلدان العالم، لأنكم بذلك لن يتجاوزا ما يفعل المتدينون بالمزايدة بنماذج الماضي التي يخيل إليهم أنها كانت تقطر عدلاً واستقامة، وتفوح طمأنينة وحباً، وتُشرق سعادة وأمنا، ولذلك يدعونكم للعودة إليها حسب روايتهم وتصوُّرهم لها.
6.انشغالكم بنقد الدين وتعيير المسلمين والبحث عما يشوههم ويحط من قدر مقدساتهم لن يجعلكم الأفضل، إذْ لم تباشروا العمل وتَخرجوا من الأقوال والنَّقد والتمنيات إلى عمل يتجلى للعيان بأنه مفيد للأرض وصالح للإنسان.
7. تقليلكم من شأن الدين وسعيكم لإخراجه من دائرة الحياة تمردٌ على الفطرة؛ لأن الدين قوة روحية لا يمكن الإنسان الاستغناء عنها، فالماديات مهما توفرت وعظمت لا تملأ أقطار نفس الإنسان وتبلغ به مرتبة السعادة، فكثير ممن يَقتلون أنفسهم انتحاراً لا تنقصهم مقومات الحياة ولا أسبابها المادية من صحة ومال وجمال ومنصب وحرية تعبير.
8.من الخطأ إصراركم على واحديّة الدين والتديّن، وأنه لا فرق بين القيم الدينية والتشريعات وكيفيات التطبيق؛ لأنكم لا تقول مثل ذلك في الديمقراطية والمدنية، حينما مارسها حكامنا بطريقة أبقت على اسمها ومعالمها وفرغتها من مضامينها؛ بل قلتم هي صواب أخطأ القوم في تطبيقها وممارستها.
وأخيراً نريد أن نغادر المعارك الوهمية على العناوين والمصطلحات سواء جاءت من الماضي أم أنتجها الحاضر، لنستقر على مشارف تجربة حية واقعية تكفل لنا حياة كريمة تحترم إنسانية الإنسان وتراعي حقوقه، ونترك أمر الباطن والغيب لخالقه يحكم فيه بحكمته وعدله.
*باحث وكاتب في الفكر الإسلامي