كتابات خاصة

انكسار وطن

أحمد ناصر حميدان

رغم مآخذ تلك الفترة الاشتراكية، إلا أن أجمل ما فيها هو تحطيم القيود الطبقية، وسيادتها للنظام والقانون.

“قم للمعلم وفّه التبجيلا… كاد المعلم أن يكون رسولا… وإذا أصيـبَ القومُ في أخلاقِـهمْ، فأقـمْ عليهـم مأتماً وعـويلا.
كنت مبهورا بهذا البيت لأمير الشعراء أحمد شوقي، إلى حدّ أنني وجدت في المعلم دوري في الحياة، هي رسالة، وتحتاج أن نكون رسل حب وسلام، رسالة بناء الجيل الصاعد القادر على أن يصعد بالأمة لمصاف الامم المحترمة، والوطن لمصاف النهضة والتطور .
قدري أن مسقط راسي مدينة عدن، وهي تحت الاحتلال البريطاني، وجدت حقي في التعليم والتربية السليمة، كنت اشعر أنني انسان محاط باهتمام السلطات، ولي حقوقي في الرعاية، في كل صباح أقف في الطابور أجد كوب من اللبن الطازج، ومعلم مهتم بشكلي وطريقة لبسي وأظافري وقصة شعري ونفسيتي، مهتم أن يجعل مني انساناً يمتلك ثقافة وفكر وسلوك، يزرع بي كل خير الدنيا وتفاؤل الحياة وبشاشة السعادة وثقة العزم ونور العلم، كان مثلي الأعلى، في بيئة مدرسية يسودها العدل والانصاف والنزاهة والحنان والاهتمام، بيئة مصغرة لمجتمع متحضر مدني يحكمها النظام والقانون والاحترام والريادة للعلم، لا مكان فيها لجريمة كسر ارادة الانسان ونفسيته مهما كانت الظروف .
وبعد الاستقلال، استمرت عدن تؤدي دورها الريادي في التنوير وتربية الانسان ليكن في مستوى التحديات، بحجم المهمة الملقاة، على مستوى جغرافيا الأرض اليمنية والعربية والقومية بروح الانسانية، رغم التحديات والإرث المثخن بالتمايز والصراعات والعصبية والجهل، وعقلية الطبيعة العنيفة للجبل والصحراء، والهيمنة والسيطرة والتسلط، حاولنا أن نهيئ البيئة للعلم لننير العقول  .
كان الانسان أهم محور في العملية، إذا كسرت ارادته وروحه، كُسر المجتمع، وبالتالي ينكسر الوطن لقطع متناثرة من البقايا. شعرت بهذا الانكسار في منتصف السبعينات عندما بعثت معلما في لودر، وكنا عرضه للتهديد بالقتل مما كان يسمى بالمرتزقة، يستهدفون المعلم ورسالته، والقادم من عدن لتنوير الانسان في الريف، وهو يضئ عتمة ظلام الجهل لنزع التخلف والعصبية من على كاهل تلك المناطق التي أهملها المستعمر، وضحايا ذلك كثر منسيين اليوم  .
وفي عدن، وجدت نفسي زميلاً لقامات تربوية كان لها الفضل في تربيتي وتعليمي، وشعرت بحجم المهمة والتحدي، رغم الانكسارات، كان دورنا هو تربية الانسان، وترميم النفوس وتجبير الخواطر والكسور التي يحدثها عبث السياسيين .
ركزنا اهتمامنا بالشباب، تربيتهم الفكرية والثقافية والوطنية، اتحاد شباب اليمن، واسبوع الطالب في ثانوية عشرة سبتمبر، جيل الثمانينات يتذكر هذا الدور، استمر السياسيون يعبثون بالبنية الاجتماعية والثقافية والفكرية، ومطلوب منا أن ننظف مخلفاتهم من النفوس، لنعيد للإنسان روحه، وللمجتمع ألقه وأيقونته .
كنا ننتقل حيث المهام الموكلة وكيلاً ثم مديراً، ثلاث ثانويات في المعلى وثانوية في التواهي، مدرسة ارتادها ابناء السياسيين، رؤساء ووزراء ومحافظين وكبار رجال السلطة، جميعهم يدرسون على نفس الطاولة مع ابن العامل والمنظف والحارس دون تمييز، عند مخالفة النظام يحضر ولي الأمر، وحضر الرئيس علي سالم البيض وهو في قمة السلطة، والشهيد سعيد صالح، في كل منعطف صراع أحسست  بكسر إرادة وروح المكسورين منهم في نفسية ابنائهم، ودار حديث في سيارة نجل صالح مصلح وهو يقلني في طريقه، شعرت بحجم الألم الذي يسكنه مما حدث في يناير المشئوم.
رغم مآخذ تلك الفترة الاشتراكية، إلا أن أجمل ما فيها هو تحطيم القيود الطبقية، وسيادتها للنظام والقانون، المعلم محفوظ الحقوق وملتزم للواجبات، العلاوات والترقيات اوتوماتيكية، بعمل مهني يدوي منتظم، بنظام اجور موحد ومعايير عادلة وخزينة عامة من الصعب جدا أن تخترقها أيادي آثمة أو تعبث بها، عليك أن تؤدي مهمتك دون أن تنشغل في امورك الخاصة .
لكن العبث تطور شيئا فشيئا، أحدث كسوراً وصلت للتربية والتعليم والنظام الاداري والمالي، وعندما تنكسر التربية وينكسر التعليم، ونفقد العدل الوظيفي نفتقد للوقاية والعلاج معا، وتتراكم الانكسارات، مما يؤدي لانكسار وطن، بدأ هذا الانكسار من عام 1994م، ولم يتوقف حتى وصل إلى ما نحن عليه اليوم، مجتمع مكسور، وطن منكسر، ومؤسسات هشة، وتربية وتعليم وجامعات عاجزة على تقديم الوقاية والعلاج، ومكونات ثقافية وفكرية صارت جزءا من هذا الانكسار تحدث ارتدادات اكثر انكسارا وتدمير للمجتمع والوطن، ولا يزال العبث يحدث انكسارات ويدمر وطن بتواطؤ ابنائه، فاقد للإرادة والسيادة  .
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى