نقاشات سياسية ساخنة على مائدة “مطعم اليمن السعيد” في نيويورك
لا يبدو شكل اليمن السعيد بهيجا كما توحي بذلك التسمية أول الأمر؛ لكن ذلك لا ينقص من شهرة هذا المطعم الذي يجتمع يمنيو الولايات المتحدة والعابرون بها على موائده بمناسبة وبدونها. يمن مونيتور/ روسيا اليوم
لا يبدو شكل اليمن السعيد بهيجا كما توحي بذلك التسمية أول الأمر؛ لكن ذلك لا ينقص من شهرة هذا المطعم الذي يجتمع يمنيو الولايات المتحدة والعابرون بها على موائده بمناسبة وبدونها.
يقيم في الولايات المتحدة أكثر من نصف مليون يمني، بعضهم يوشك على طيّ عقده الثالث، وهم شتى من اليمنيْن قبل الوحدة، وشتى من اليمن الموحد.
ورغم أن وسائل الإعلام العالمية التي تتابع باهتمام شأن اليمن في السنوات الأخيرة، دأبت على استضافة ناشطي الجنوب من أمريكا، رغم ذلك فإن الجالية هنا ملونة بالطيف اليمني كله لدرجة يستعصي معها الحكم بأغلبية جهة على حساب أخرى، من أمة ما تزال القبيلة لاعبا أساسيا في حياتها السياسية ونظامها الاجتماعي حتى اليوم.
لعل روائح البهارات والخبز اليمني العتيق أحسن إعلان يروج لهذا المطعم من على بعد أمتار طويلة تعج بالمارة من النيويوركيين المستعجلين أبدا، غير أن هذا الإعلان لم يخاطب قط – فيما يبدو – حسّ مخرجي آلة السينما الأمريكية المصطفين على الدوام أمام محل التصوير المجاور وهم على بعد شبر فقط من قصة تصلح لعشرات الأفلام لما فيها من التراجيديا وحتى الكوميديا السوداء.. هذا ما يتمتم به أحمد ذو الثلاثين ربيعا وهو يتابع من خلف المرايا باهتمام عمال الصيانة داخل محل التصوير وهم يعيدون تركيب ورق الحائط ، ثم يختال متقدما نحو البوابة الضيقة المجاورة في طريقه إلى “اليمن..”.
بدأت الأزمة اليمنية التي تشد وثاق البلاد عام ألفين وأحد عشر، في غمرة ما سمي بالربيع العربي ، غير أن استحالتها أزمةً تأتي وفق غالبية نخبة اليمن لتعارض مصالح القوى الإقليمية، لذلك ولأشياء أخرى يترامى سياسيو اليمن تهم العمل بأجندات خارجية، وهي التهم التي تغذيها هوة الخلاف المتسعة بين الفُرَقاء. في أعوام أربعة تغيّر اليمن كثيراً، وإن بقيت الصور السياسية الرئيسية والشخوص حاضرة في المشهد مع اختلاف في المواقع والأدوار.
ينقسم اليمن سياسيا بين طرفي صراع أساسييْن أحدهما جماعة الحوثي مدعومة بحزب المؤتمر الشعبي العام (حزب الرئيس السابق علي صالح) ، وثانيهما الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وموالوه ومن يتحالف معه من بعض أطياف الجنوب فضلاً عن أحزاب سياسية أبرزها التجمع اليمني للإصلاح المحسوب على التيار الإسلامي وقد حاولت الأمم المتحدة لعب دور في التقريب بين وجهات النظر لدى أطراف أزمة اليمن بقرار أممي ومبعوثيْن شخصييْن عن الأمينِ العام، وعدة مسودات .. غير أن كل ذلك لم يفلح في حلحلة الصراع، فقد فشلت مشاورات جنيف التي حاولت الأمم المتحدة عقدها في يونيو، وتبادل الطرفان الرئيسان تهم الإفشال، تماما كما تكلّست مساع سابقة ومشاريع اتفاقات يمنية ـــــ يمنية.
يأخذ استذكار المراحل الأبرز من التاريخ السياسي اليمني كثيرا من حيز النقاش بين أحمد وزيد وهما يتناولان الفحسه، أحد أبرز أطباق المائدة اليمنية وتأتي عادة كمقبلات رغم كونها وجبة دسمة منفصلة بذاتها.. بادئ الأمر انزعج أحمد كثيراً من تقديم طبق الحنيذ “الأرز مع اللحم المقدد” على الطريقة التقليدية قبل الفحسه بخلاف التقاليد، ما جعله يمازح عامل التقديم داعيا عليه بالزواج من إحدى سيدات مدينة يمنية بعينها. يبتسم زيد معجبا بهذا الدعاء فهو يحقق له نقطة في السجال كون المدينة محسوبة على الشمال ويسجل نقطة استراتيجية أخرى على المدى المتوسط للنقاش وهو يرى أحمد متشبثا بتقليد تقديم الفحسه أولاً وهي وجبة شمالية بامتياز.
لقد كانت الوحدة خطأً من الأساس، هذا ما يردده أحمد على الدوام فقد اعتبر أن ظلما حاق بالجنوبيين على مدى سنوات طويلة لعبت فيها السياسة باليمن.. عندما يمضي السياق نحو انتقاد أوضاع اليمن يتفق الأخوان – كما يحبان أن يتصفا – أحمد وزيد في كثير من النقاط، لكن نقطة الانفصال أو نفس المناطقية أو الجهوية تستفز الأخوين، يقطع زيد الصمت المعهود بعد كل نقاش ساخن صارخا : “مأساتنا تكمن عند الحديث بمبدأ نحن وهم”.ما زال الخلاف اليمني قائما وما زال المدفع أول وأكثر متحدث يسمع صوته، فمنذ سيطر الحوثيون وموالو صالح على العاصمة صنعاء وتقدموا نحو مدن الجنوب، ومنذ استعان الرئيس هادي بالسعودية وشنت مقاتلات التحالف العربي الذي تقوده العربية السعودية أولى غاراتها، لا يخلو يوم من حصيلة للصراع العسكري، مرة لهذا الطرف ومرة لذاك. وبالتوازي مع ذلك تعقدت وتشابكت خيوط الحلول السياسية، خاصة وأن ما تواتر إعلاميا من تسريبات لا يشي باتفاق مرتقب.
ورد أن نقاط الخلاف الكبرى تدور حول مقترح دولة من إقليمين رئيسيين، وتنظيم استفتاء تقرير مصير للجنوب ، من نقاط الخلاف أيضا مطلب إعادة بناء الجيش اليمني على حساب دول التحالف العربي، وهي نقطة لم ترق لبعض الأطراف، بينما بدت أكثر النقاط الخلافية سخونة إبعاد شخصيات كزعيم جماعة أنصار الله عبد الملك الحوثي وبعض من مقربيه عن المشهد ونزع الحصانة عن الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وقد نالها بقانون أقره البرلمان اليمني استنادا إلى ما جرى الإتفاق عليه في المبادرة الخليجية.
في ذلك الصوت الجهوري ذي الشرخه للفنان اليمني أبوبكر سالم يسهو الأخوان، فيبادر زيد سائلا: هل تريدون أن نخزّن؟ (أن نتعاطى القات اليمني)، يضحك الكل. فيستغل أحد الحاضرين الفرصة ليشرح كيف أن الشماليين هم من أدخل إلى الجنوب عادة “التخزين” كل يوم، وقد كانوا من قبل يتعاطون القات يوما واحدا في الأسبوع.. لا تبدو لدى المجموعة رغبة في إعادة فتح النقاش، لكن زيدا يختمه مازحا بالقول : صدقوني لقد كتبت وقلت وأقول، أنا وأخي سنقتتل.
للشاي الحضرمي طعم أخّاذ، وهو بديل جيد عن الدعوة السابقة ـ غير الجدية بالطبع ـ إلى تعاطي القات، رغم توفره في الولايات المتحدة من مصدرين أساسيين : إثيوبيا وفلسطين. وعلى جلسة الشاي يحاول الكل التكهن بمآلات اليمن في مقبل الأيام، وإن كانت روح الأمل حاضرة في أن يستعيد البلد عافيته.