حتى اللحظة لم أشاهد الصور التي تتوالى من مذبحة سنبان في مديرية ميفعة عنس بذمار، التي جرى تنفيذها في أبشع وأفظع مجزرة وحشية تشاهدها عينك في هذه الرقعة من الكوكب المتدفق بالدماء، لقد كانت ليلة رعب قاسية في ذاكرة ووجدان الوطن الجريح، خصوصا أنها قتلت أبرياء في كامل أناقتهم، تفوح منهم رائحة الفرح والبهجة في عرس تحول إلى فاجعة بعد أن كان ليلة عمر!
حتى اللحظة لم أشاهد الصور التي تتوالى من مذبحة سنبان في مديرية ميفعة عنس بذمار، التي جرى تنفيذها في أبشع وأفظع مجزرة وحشية تشاهدها عينك في هذه الرقعة من الكوكب المتدفق بالدماء، لقد كانت ليلة رعب قاسية في ذاكرة ووجدان الوطن الجريح، خصوصا أنها قتلت أبرياء في كامل أناقتهم، تفوح منهم رائحة الفرح والبهجة في عرس تحول إلى فاجعة بعد أن كان ليلة عمر!
تتسابق العبرات وحروف الوجع، وأمام عيني أطفال للتو يتجرعون مرارة اليتم، وسجل طويل من القصص المأساوية التي لن تسعفك كل مفردات الألم على تصويرها أو الاقتراب من بعض الأسى الطافح، التي خلفتها الجريمة البشعة في العرس.
هذه الليلة موحشة ومخيفة، مخيفة للغاية، الوجل يسكن قلوب مئات المكلومين والحزانى ممن عادوا من تشييع جنازات أقاربهم وأصدقائهم، البيوت خالية من سكانها، الذكريات وحدها تأبى الحضور، تتمسك بالمغدورين، تذرف دمع الفراق المتجلبب بفساتين الفرح البيضاء، تحوم فوق قبور الراحلين في حزن منسكب.
قلبي على الضحايا الذين يتجرعون المرارات، حزني يتكاثف، يتضاعف، يمتد بامتداد الدوامة التي دخلتها هذه الجريمة، منذ ما قبل تنفيذها، وأثناء وبعد ارتكابها!
تحضر جريمة عرس سنبان، عقب سلسلة جرائم مشابهة، كانت المخاء قد عاشت فجيعة مماثلة، قبل أسابيع، جريمة متطابقة في الموعد والمناسبة والضحايا، متشابهة في الحزن والموت، في القتل والضحايا، في الاستثمار الرخيص والتسويق الفاحش للأشلاء، في التراشق وتبادل الإتهامات، في الصمت الوقح، في الجنون المتوحش، وفي غموض الفاعل تشابه حاضر وبقوة!
والغموض أخدود عميق ملتهب، يشوي أرواحنا، يلتهم فلذات أكبادنا، يستنسخ الفجائع والكوارث، يتخذ من أجساد الأبرياء حطباً يوقد نار القتلة، ثم في لحظة عراك وتبادل اتهامات، يحضر الغموض؛ مرتدياً معطفه الشرير، وأنيابه تقطر دماً قاني، ويتركنا في الضجيج الهامشي بينما يحضّر نفسه لارتكاب نسخة متطابقة بعد أسابيع، معتمداً على ذاكرتنا المخذولة والقصيرة التي هي الرديف والظل للقاتل وجرائمه الوحشية.
في 21 من مايو الفائت كنت أفقد عيناي، كنت أموت ببطئ، منذ لحظة قصف المباني التي حولها الحوثيون إلى معتقلات سرية، ووضعوا فيها جمع من المواطنين العزل، بينهم زميلاي عبد الله قابل ويوسف العيزري، كان الموت يدور مع عقارب الساعة الثلاثة، بتكاتها، في الثانية والدقيقة، لأكثر من أسبوع، ونحن في ذهول رهيب، ننتظر من الجثامين أن تخرج إلينا لندفنها، ونحن ندفن إنسانيتنا ونخوتنا وبقايا شجاعة فينا، كان الغموض يحضر، بخبث ليشتت اهتماماتنا، فطاشت الأسهم، واستسلمنا للواقع المزدحم بالموت وضجيج الحرب الطاحنة، وعجيج الميليشيا التي تعبث بالدولة.
كان ذلك المنعطف الأخطر في تاريخ الحركة المجتمعية اليمنية، كنا ندخل أخدود الغموض، دخلناه مندهشين، مخدرين بالفجيعة، بلداء، لم نصحو من لحظتها ونتحمل مسؤوليتنا ونتيقظ، لأن ذلك باب الموت الجماعي والقبور المفتوحة بالجملة، حين آثرنا الصبر وسقطنا في أخدود الغموض.
تكررت الجرائم، وكان دوي الحرب يدخلنا دوامة التيه، وعواصف الاتهامات، تمهيداً للنسيان، او التناسي، لا بل والتهيئة لمجزرة أخرى، لقد فقدنا الثقة في أنفسنا، تراخينا وتراشقنا، وقبلنا بالتبعية والاصطفاف خلف اطراف متنازعة، وخذلنا دماء الضحايا الأبرياء.
اليوم ترتص أرواح المغدورين في سنبان، تقف مخضلة بالدماء الثجاج، تعاتبنا وتلومنا وتنادي فينا ذرات الإنسانية المخبولة، المخدرة، أن نفيق، ونصحو لنقوم بدورنا في وجه “أخدود الغموض” الذي يلتهم وطننا، والإنسان هو الوطن، ينادي حبر أقلام الصحافيين، وقراطيس الأدباء، ومبادئ الحقوقيين، وكل أذرع المجتمع المدني، أن نحترم الدم المسفوك، ونتعاضد ونلاحق الجاني وحده، ونسعى بكل ما أوتينا من قوة، متجردين من العاطفة السلبية، منحازين لحقوق الضحايا وحدهم، لنصرخ بوعي، ومسؤولية لنوقف العبث الذي يذبحنا بوحشية وقذارة.
الأخدود الغامض شبكة مترابطة، عصابات في عصابة، يستدعي اليقظة من جديد، نتلاحم لنفتح ملفات التحقيق في كل الجرائم، حتى نردم الأخدود الغامض، وصولا لضمان حقوق الضحايا، ومحاسبة الفاعل، قبل ألا نستفيق على شيء..
الرحمة لكل الشهداء، والشفاء للجرحى، والعافية للوطن المغدور.