لأن صورة الحقيقة عندهم مشوهة من الأساس؛ يعتقد المُفرطون بالمُبالغة أنَّهم دوماً على حق، وأنَّهم يحسنون صنعا، يعطون الأشياء أكبر أو أصغر من حجمها، ويمنحون الناس أكثر أو أصغر من وزنهم، ولا وسطية في حياتهم الملبدة بالزيف، والمسكونة بالتذمر والشكوى، والأسوأ أنهم يسعون إلى فرض نظرتهم القاصرة على الآخرين.
ليست المُبالغة مٌجرد طريقة تفكير آنية، أو سلوك عابر؛ بل مرآة عاكسة لحالة الشعوب المُهتمة بالكلام دون العمل، والتي تُعوض فشلها بخلق عالم افتراضي زائف، وفي كل الأحوال يبقى الحديث عنها طويل، وشائك، ومُتشعب، ويصعب اختزاله في مقالةٍ محدودة الكلمات، وسأكتفي هنا بالتعريج على أبرز ما هو «مُـبــالــغٌ فـيــه» في حياتنا كيمنيين.
مُنذ نعومة أظفارنا ونحن نتعايش مع أساليب المُبالغة والتهويل؛ الأمر الذي انعكس سلباً على طريقة تفكيرنا، حتى أصبحنا عاجزين أو شبه عاجزين عن مواجهة الحقيقة بروح «الواقعية الموضوعية»، واليوم وفي ظل هذا الشتات الفظيع الذي نعيشه، أصبحت المُبالغة جزءاً لا يتجزأ من نمط حياتنا، تفصح عن نفسها في تصرفاتنا، وفي تفاصيل كثيرة لو دققنا النظر فيها، لهالنا ما وصلت إليه من استحواذٍ وسيطرة.
لأن صورة الحقيقة عندهم مشوهة من الأساس؛ يعتقد المُفرطون بالمُبالغة أنَّهم دوماً على حق، وأنَّهم يحسنون صنعا، يعطون الأشياء أكبر أو أصغر من حجمها، ويمنحون الناس أكثر أو أصغر من وزنهم، ولا وسطية في حياتهم الملبدة بالزيف، والمسكونة بالتذمر والشكوى، والأسوأ أنهم يسعون إلى فرض نظرتهم القاصرة على الآخرين.
الإسهاب في تعظيم وتقديس سلالة بعينها، والجزم بأنها الأحق بالحكم والولاية، مُبالغة في الكهنوتية والعنصرية، والعمل على احتقار هذه السلالة، وتشويه كل من يتصل بها قريبه والبعيد، مُبالغة في ردة الفعل الانتقامية، وتمني الموت لليهود والأمريكان، وقتل المسلمين اليمنيين، مُبالغة في النفاق والإرهاب، وشكر من يدمر بلدنا، ويطعننا من الخلف، مُبالغة في العمالة والارتزاق، وإلقاء التهم التخوينية لكل من يخالفنا الرأي والمواقف جزافاً، مُبالغة في الكذب والافتراء، عناوين صادمة تلخص واقعنا الأسود، ولا مؤشرات حتى اللحظة لا انقشاعها، أو حتى خفض وتيرتها.
قديماً قال أجدادنا: «ربنا باعد بين أسفارنا»، وحديثاً قال أخوة لنا: «شكراً لمن دمر بلدنا»، و«اعلنوها حرب عالمية»، ولأننا بالغنا في ظلم أنفسنا؛ استحقينا عقوبة «فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق»، وفي ماضينا وحاضرنا ثمة مواقف وحكايا مُتصلة، بعضها لا يصدق، سأكتفي هنا بذكر بعضٍ منها، مبتدئاً بـ عبدالملك الحوثي، ذلك الإمام الكارثة، الذي بالغ في تقليد أسلافه، وفي استحضار تجربة «ملالي إيران» و«حزب الله»، وبصورتها الفظيعة، وأحال بجنونه اليمن إلى قطعة من الجحيم.
كقارئ فاحص لتاريخ الإمامة الآثم، وجدت الكثير من الاستدلالات التي تؤكد أن ماضي هؤلاء حافل بالمبالغات المُقززة، ودائماً ما يبالغ مؤرخيهم في تضخيم أعداد مقاتلي الطرف الآخر، وأنهم بعشرات الآلاف أو مئات الآلاف، مُقابل بضع مئات من أنصار هذا الإمام أو ذاك، وأنَّ النصر في النهاية كان حليف الأقل عدداً، الأكثر إيماناً!!
ذكر كاتب سيرة «الهادي» يحيى بن الحسين، أنَّ الأخير وفي أكثر من معركة كان معه المئات من أنصاره، وأنَّه انتصر بهم على الآلاف من أعدائه، وقال صاحب «روح الروح» مُبالغاً أن قوات السلطان عامر بن عبد الوهاب التي اجتاحت صنعاء تجاوزت الـ «170,000» مُقاتل، وفي معركة «نجد السلف – البيضاء» بين قوات «المُتوكل» إسماعيل و«شيخ البيضاء» حسين الرصاص، ذكر المؤرخ الجرموزي أن قوات الأخيرين بلغت نحو «30,000» مُقاتل، وهي في الحقيقة – وكما تشير الذاكرة الشفهية – لم تتجاوز الـ «2,000» مُقاتل.
كان «الهادي» يحيى بن الحسين مُبالغاً في اعتداده بنفسه، وأفاد «كاتب سيرته» أنَّه وأثناء دخوله مدينة صنعاء، كان في قلة من أنصاره، وأنَّه حين أحس برهبتهم من ملاقاة «القرامطة»، خاطبهم قائلاً: «تفزعون وأنتم ألفا رجل»، فقالوا: «إنما نحن ألف رجل»، فقال: «أنتم ألف، وأنا أقوم مقام ألف، وأكفي كفايتهم»!!
وكان «المنصور» عبدالله بن حمزة مُبالغاً بِعنصريته، عمل على تكريس التعالي السلالي بين أبناء عشيرته، أوهمهم أنهم الأفضل، وما دونهم عبيد واجبٌ مُخالفتهم، وذكر «كاتب سيرته» أنَّه أمرهم بحلق رؤوسهم؛ لأنهم – حد وصفه – سلكوا مسلك العامة في تطويل شعورهم، وبلغ من سخريته أن خاطب اليمنيين قائلاً: «وارضوا بنا أئمة، نرضكم لنا تبعاً»، وزاد على ذلك مُستهجناً:
وهل تمت لكم أبداً صلاة
إذا ما أنتم لم تذكرونا
وهل تجب الصلاة على أبيكم
كما تجب الصلاة على أبينا
وكان «الناصر» المـُطهر شرف الدين مُبالغاً في قتله للأسرى، وفي أكثر من موقعة، وذكر المؤرخون أنَّه في إحدى معاركه مع «الحمزات» أمر بحز رأس «600» أسير، وإنَّه في معركة أخرى مع «الطاهريين» أسر «2,300»، ثم أمر جنوده بحزَّ رأس «1,000» منهم، حتى اغتمرت حوافر بغلته بالدم، ثم أجبر من تبقى بحمل الرؤوس الدامية إلى صنعاء، ليأمر فور وصوله باحة قصر والده بإلحاقهم بزملائهم.
وكان «الناصر» أحمد حميد الدين مُبالغاً في ادعاء الانتصارات الزائفة، وتصوير نفسه بالمنقذ الذي يشق له غبار، وفي إحدى معاركه مع «الزرانيق»، قال مُعتداً بنفسه:
ولما رأيت الجيش قد فل حده
وقد رجع الأعقاب بعد التقدم
ونادي باسمي المستجير من الردى
لإدراكه والشر في الناس ينتمي
كررت بطرف يسبق الطرف عده
جواداً كريم الأصل غير منعم
فجالدت أعداء الإله بجمعهم
وكانوا أحاطوا كالسوار بمعصم
ودافعت عن ذاك السريع فحزته
وقد كان للأعداء أكبر مغنم
كما بالغ شعراء الإمامة في مدح أئمتهم، وإضفاء مَسحة ملائكية عليهم، وحين أدعى البعض أنَّ «المهدي» أحمد بن الحسين مسح بيده على رجل مُقعد يدعى «التنين»، حتى استوى الأخير قائما، سارع الشاعر القاسم بن هُتيْمل بتصوير ذلك المشهد الأسطوري بأسلوب دعائي رخيص، وخاطب مُعارضي سيده قائلاً:
أبعد شهادة التنين يعصي
من الثقلين مأموم إمامه
أتاك كضفدع الغمرات جهراً
فقام كسمهري الخط قامة
وما عرف المسيح بغير هذا
أمعجزة النبوة في الإمامة
ذلك غيض من فيض، وحتى لا أخرج عن السياق العام لموضوعنا، أختم بما كتبه الدكتور زكريا إبراهيم في عدد قديم من مجلة «العربي»، ذهب فيه إلى وصف المُبالغة بالداء المُتربع على رأس أدوائنا الاجتماعية، والأخلاقية، مُشيراً إلى أن علاجها يكمن بتوخي الدقة، ونشر روح الموضوعية، ومحاولة القضاء على العقلية الانفعالية، داعياً إلى ضرورة العمل بطريقة تدريجية عل فضح شتى مظاهر التطرف الفكري، والأخلاقي، والسياسي، والاقتصادي؛ حتى نسهم في كسر شوكة هذا الداء المُستفحل.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.