مصالح ضرورية ومصالح حاجية ومصالح تحسينية، وهذا المراتب الثلاث تعود للإمام الجويني والذي أرى أن العز بن عبدالسلام هو الامتداد الأقرب له، أكثر من الشاطبي.
تدور أغلب الدراسات المقاصدية المعاصرة على شخصية الإمام الشاطبي فهو مؤسس هذا العلم وباني أركانه عند غالبية الدارسين، ففي كتابه “الموافقات” توسع الشاطبي في دراسة المقاصد وأقسامها ومراتبها وكلياتها، ولكن ما أريد الوقوف عنده هو مدرسة أخرى قامت بنفس الجهد وربما بطريقة أحكم وأكثر اتساقا، إنها مدرسة العز بن عبدالسلام والتي يمكن أن نسميها “مدرسة المصالح” بدلا عن “المقاصد” وكلا اللفظين يستخدمان في الفكر المقاصدي، فأحيانا يقولون مصالح ضرورية وأحيانا أخرى مقاصد ضرورية، وأرى استخدام المصالح مع المراتب الثلاث أدق.
مصالح ضرورية ومصالح حاجية ومصالح تحسينية، وهذا المراتب الثلاث تعود للإمام الجويني والذي أرى أن العز بن عبدالسلام هو الامتداد الأقرب له، أكثر من الشاطبي.
لقد توجهت جهود الإمام العز إلى تنظيم وترتيب العقلية الإسلامية بشكل عام والعقلية الأصولية بشكل خاص على نظام متسق هو نظام الموازنة بين المصالح والمفاسد، وحتى لا تغرق تلك العقلية في الجزئيات وضع أمامها مجموعة من القواعد الكلية التي تحدد لها معيار الموازنة الدقيق، ومن يقرأ كتابه “قواعد الأحكام” يجد تلك القواعد المحكمة متناثرة في كل باب، تلك القواعد التي تنفع لمواجهة مستجدات الحياة بطريقة أسرع وأكثر مرونة.
يتوقف العز عند قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل 90، ويجعل من هذه الآية قطب الرحى في المصالح والمفاسد، وهو في ذلك يسلك مسلك الأصولي المقاصدي نجم الدين الطوفي والذي بنى نظريته للمصلحة على حديث ( لاضرر ولا ضرار)، وما كتبه هذين الفقهين برأيي هو أكثر ما يناسبنا في الاعتماد على أصل المصلحة، فهما أكثر من ضبطها ونظمها ونظر لها.
هذا حديث عام عن فقه العز ولكن ما نركز عليه في هذا المقام هو رؤيته في الكليات الخمس التي تسمى المقاصد، ومن يتتبع أقواله فيها يجد أنه يذكر حفظ العرض ولا يذكر حفظ الدين في أكثر من عشرة مواضع في كتابه، وربما هو المقصود من كلام القرافي حين ذكر أن هناك مسلكان، فهذا المسلك الذي يذكر الأعراض بدلا عن الأديان هو مسلك شيخه العز بن عبدالسلام.
أول النصوص التي ذكر فيها العز الكليات هو قوله: “وكذلك اتفقت الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض”، وفي هذا إشارة لكليات النفس والنسل والمال والعرض.
وتكرر مثل هذا الكلام في عشرة مواضع منها قوله: “والمفاسد ضربان: أحدها؛ ما يثاب على فعله ويؤجر على تركه إذا نوى بتركه القربة كالتعرض للدماء والأبضاع والأعراض والأموال”.
وكذا قوله: “لأن المصلحة في حفظ الحقوق من الدماء والأموال والأعراض والأبضاع وسائر الحقوق أهم وأعظم” فلم يذكر الأديان في هذين النصين وغيرهما..
والعز في هذه النصوص التي لم يذكر فيها الأديان لم يكن كما قال بعضهم بأنه لم يقصد جمع المقاصد كلها، إذ لا يخفى عليه ما كتبه الغزالي والآمدي من حصر للكليات الخمس فهم شافعية وهو شافعي.
وعدم ذكر العز لكلية حفظ الدين ضمن تلك الكليات لا يعني أنه لم يتكلم عنه في عدة مواضع من كتابه، مقارنا بينه وبين بقية الكليات، ولكن العز له تقسيم آخر أشمل، وهو تقسيم الحقوق إلى قسمين: حقوق الله وحقوق العباد، وما يتعلق بالدين من طاعة وإيمان وكفر وعصيان يدخل ضمن حقوق الله، أما ما يتعلق بالمصالح والمفاسد ودرجاتها ومراتبها وكلياتها فتتعلق بحقوق العباد، وحصره للكليات ضمن حقوق العباد هو الأدق في الموازنة، ويبتعد عن تلك التناقضات التي وقع فيها من لم يقسم بهذه الطريقة، يقول العز: “وعلى الجملة فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض”
فالعز بن عبدالسلام يعتبر الدين من حقوق الله، وبقية الكليات من حقوق العباد، وهذا يرجع إلى تقسيم الجويني كما ذكرت من قبل، حيث يقول: “وبالجملة، الدم معصوم بالقصاص… والفروج معصومة بالحدود، والأموال معصومة عن السراق بالقطع…”.
أما أهمية هذا التقسيم ودقته فتظهر فيما أشار إليه الآمدي في قسم التعارض والترجيح في معرض مناقشته لمسألة تزاحم هذه الكليات فيما بينها أيهما يقدم الدين وهو حق الله، أم تقدم بقية الكليات التي تتعلق بحقوق العباد، وأن للعلماء في ذلك تصوران، تصور يرى فيه أصحابه تقديم الدين على بقية الكليات وتصور ثان يرى أصحابه تقديم بقية الكليات على كلية الدين بناء على أن حقوق العباد مقدمة على حقوق الله؛ لأنها مبنية على المشاحة أما حقوق الله، فهي مبنية على المسامحة، وهذا دليل على وجود هذا التصنيف عند المتقدمين قبل العز بن عبد السلام وقد كان محل نقاش بينهم وقد ذكره ابن الحاجب في مختصره، وابن النجار في شرحه دون نسبته لأحد من العلماء.
وهو ما سار عليه، غير واحد من الأصوليين، كالسرخسي الحنفي الذي فرق بين الحدود المتعلقة بحقوق الله وحقوق العباد، فقال: “وأصل الكفر من أعظم الجنايات، ولكنها بين العبد وربه، فالجزاء عليها مؤخر إلى دار الجزاء”؛ ويقصد بذلك الأديان، ثم يضيف مبينا ما تعلق بحق العباد فقال: “وما عجل في الدنيا سياسات مشروعة لمصالح تعود إلى العباد، كالقصاص لصيانة النفوس، وحد الزنا لصيانة الأنساب والفرش، وحد السرقة لصيانة الأموال، وحد القذف لصيانة الأعراض، وحد الخمر لصيانة العقول”.
وهذا الكلام للسرخسي يؤكد على فلسفة الإسلام في العقوبات، فما يتعلق بحق الناس والمجتمع فهو جريمة لا بد من ردعها بعقوبات عاجلة في الدنيا، ليأمن الناس على حقوقهم وأنفسهم، وما كان يتعلق الله، فهو ذنب تؤجل عقوبته ليوم الحساب. فالسرقة والزنا والحرابة جرائم اجتماعية تهدد حياة الناس ومصالحهم في الدنيا، ولهذا وجب تحديد عقوبات دنيوية عاجلة ورادعة لمقترفيها، أما مسألة الارتداد عن الدين الحق فهي ذنب في حق الله، وقد شاءت حكمة الله أن يترك للمرتد فرصة في الدنيا كافية لمراجعة نفسه وتصحيح خطئه، فربما عاد إلى الإيمان بعد أن يتبين له أنه الحق.
كما يبنى على هذا الكلام أيضا أنه ليس من وظائف الدولة حماية الدين كما يظن بعضهم، لأنها إن فعلت ذلك فقد أرغمت الناس على عقيدة ربما لم يقتنعوا بها فيتحولوا لمنافقين، وإنما وظيفة الدولة حماية الإنسان نفسه وعرضه وماله، وحماية حرية تدينه، وأما تفاصيل الدين التعبدية فيحفظها المسلم بإيمانه وسلوكه واقتناعه، ودعوة الآخرين إليها بالتي هي أحسن، ويمكن أن ينظم ذلك عبر مؤسسات المجتمع المدني.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.