مسلك آخر في مقاصد الشريعة (1-3)

د.عبدالله القيسي

اشتهر في الدراسات المقاصدية أن مقاصد الشريعة خمسة، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ولكن السؤال الذي شغل بالي كيف يصح منطقيًا أن يأتي الدين لحفظ الدين؟! كيف يأتي الدين لحفظ نفسه؟ أوليس الدين جاء لأجل الإنسان “ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” أليست هذه الآية واضحة في أن الدين جاء لأجل الإنسان؟

اشتهر في الدراسات المقاصدية أن مقاصد الشريعة خمسة، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ولكن السؤال الذي شغل بالي كيف يصح منطقيًا أن يأتي الدين لحفظ الدين؟! كيف يأتي الدين لحفظ نفسه؟ أوليس الدين جاء لأجل الإنسان “ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” أليست هذه الآية واضحة في أن الدين جاء لأجل الإنسان؟

وللإجابة على هذا السؤال ذهبت في تتبع ما قاله الأصوليون ابتداء بأول من أشار إلى المقاصد وهو الإمام الجويني ثم تلميذه الإمام الغزالي، وحين قرأت كلامهما اتضحت الصورة، أما إمام المقاصد الأول الجويني فلم يذكر مقصد حفظ الدين ضمن المقاصد والكليات في كتابه البرهان، وإنما ذكر ثلاث كليات هي: النفس والنسل والمال، ثم وافقه الغزالي في كتابه شفاء الغليل ولم يذكر الدين ولكنه أضاف العقل، ثم أضاف الغزالي لاحقًا في المستصفى الدين فصارت خمسة مقاصد، ثم سلك الأصوليون من بعدهم مسلكان: فريق لم يذكر الدين ضمن مقاصد الشريعة وفريق يذكره.
وسأسمي المسلك الأول بمسلك الجويني ومن جاء بعده ممن زاده تفصيلا أهمهم العز بن عبدالسلام والمسلك الثاني بمسلك الغزالي ومن جاء بعده ممن زاده تفصيلا وأهمهم الشاطبي كما سيأتي معنا، ويمكن أيضا أن تكون التسمية باسم مؤصلي هذه المقاصد وشارحيها، فيكون لدينا باعتبار هذين المسلكين مدرستين في المقاصد، الأولى مدرسة العز بن عبدالسلام والثانية مدرسة الشاطبي.
ولأن المسلك الثاني صار ظاهرًا ومشهورًا والمسلك الثاني صار مطمورًا وغير معروف، وربما لو تحدث به أحدهم لوجدوا في كلامه غرابة، سأكتفي بتتبع المسلك الثاني عند الأصوليين، ومن أشهر من قال به، ثم أبين أهمية هذا المسلك في تجديد مقاصد الشريعة ومدى اتساقه وعدم تناقضه، بعكس المسلك الأول الذي يظهر تناقضات كثيرة حين الموازنة بين جزئياته.
أهم عبارة تشير إلى وجود هذين المسلكين هي عبارة القرافي عند حديثه عن مقصد حفظ العرض حيث يقول: “واختلف العلماء في عدها -ضمن الكليات- فبعضهم يقول الأديان عوض الأعراض، وبعضهم يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان”.
إذن نحن –بحسب القرافي- أمام مسلكين في تصنيف مقصد حفظ الدين، مسلك يذكره ومسلك يذكر العرض بدلا عنه.
يقول الريسوني: “إن إمام الحرمين رحمه الله، هو صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع “الضروريات – الحاجايات – التحسينيات”، وهو التقسيم الذي سيصبح من أسس الكلام في المقاصد. كما أنه صاحب فضل وسبق في الإشارة إلى الضروريات الكبرى في الشريعة، وهي التي سيتم حصرها فيما بعد تحت اسم “الضروريات الخمس”.
وقد ذكر الجويني تلك المقاصد عند حديثه عن ما يعلل وما لا يعلل من أحكام الشرع، وذكر أن العبادات مما لا يعلل، فلا “لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية”، أي لا يظهر فيها درء مفسدة ولا جلب مصلحة، ثم ذكر أن هذه العبادات يمكن تعليلها تعليلًا إجماليًّا، وهو أنها تمرن العباد على الانقياد لله تعالى، وتجديد العهد بذكره، مما ينتج النهي عن الفحشاء والمنكر، ويخفف من المغالاة في اتباع مطالب الدنيا، ويذكر بالاستعداد للآخرة. قال: “فهذه أمور كلية، لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية، وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 7، 8. فلم يبق إذن، إلا بعض أحكامها التفصيلية، مما يعسر تعليله ويتعذر القياس عليه، كهيئات الصلاة. وأعداد ركعاتها، وكتحديد شهر الصوم ووقته.
أما ما عدا العبادات مما يعلل فقسمه لثلاثة أقسام:
– القسم الأول: ما يتعلق بالضرورات،
– القسم الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة.
– القسم الثالث: ما ليس ضروريا ولا حاجيا حاجة عامة. وإنما هو من قبيل التحلي بالكرامات، والتخلي عن نقائضها.
أما إشارته لكليات النفس والنسل والمال، فقد ذكرها بقوله: “فالشريعة متضمنها: مأمور به، ومنهي عنه، ومباح. فأما المأمور به: فمعظمه العبادات وأما المنهيات: فأثبت الشرع في الموبقات منها زواجر، وبالجملة: الدم معصوم بالقصاص. والفروج معصومة بالحدود. والأموال معصومة عن السراق بالقطع”.
كان هذا حديثًا سريعا عن الجويني ومسلكه في المقاصد، أما مسلك تلميذه الغزالي ففي بدايته كان موافقا لأستاذه، يقول الغزالي في شفاء الغليل ” ثم الشيء ينبغي أن يكون مقصودا للشارع، حتى تكون رعايته مناسبة في أقيسة الشرع. فقد علم – على القطع أن حفظ النفس والعقل والبضع والمال، مقصود في الشرع. فجعل القتل سببا لإيجاب القصاص، لمعنى معقول مناسب، وهو: حفظ النفوس والأرواح المقصود بقاؤها في الشرع، وعرف كونها مقصودة على القطع. وحرم الشرع شرب الخمر: لأنه يزيل العقل؛ وبقاء العقل مقصود للشرع، لأنه آلة الفهم وحامل الأمانة، ومحل الخطاب والتكليف. والبضع مقصود الحفظ، لأن في التزاحم عليه اختلاط الأنساب، وتلطيخ الفراش، وانقطاع التعهد عن الأولاد: لاستبهام الآباء: وفيه التوثب على الفروج بالتشهي [والتغلب] وهي مجلبة الفساد والتقاتل. والأموال مقصودة بالحفظ على ملاكها؛ عرف ذلك بالمنع من التعدي على حق الغير، وإيجاب الضمان، ومعاقبة السارق بالقطع”.
ونلاحظ هنا أن الغزالي يذكر أربعة مقاصد فقط هي النفس والعقل والبضع والمال.
ثم في كتابه المستصفى وهو متأخر عن كتابه السابق ذكر ما اشتهر فيما بعد بالمقاصد الخمسة، حيث يقول: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”.
ثم بنى الشاطبي على ما ذهب إليه الغزالي وفصل أكثر مقاصد الشارع في وضع الشريعة وهو حفظ مقاصدها في الخلق، وبين أقسامها وهي: الضرورية، والحاجية، والتحسينية. واشتهرت بعد ذلك أنها هي مقاصد الشريعة برغم الخلاف في تحديدها وتحديد عددها عند الأصوليين، وربما الأهم هو بيان ذلك المسلك الذي ابتدأه الجويني ووسعه العز بن عبدالسلام ثم لم يأخذ حظه كما الشاطبي.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى