شـركــاء الآل!!

بلال الطيب

قدم «الهادي» يحيى إلى اليمن، فلحق به آلاف المُقاتلين، مُعظمهم من فارس، لتحـل الطامة الكبرى بانقياد «الهمدانيين» – أبناء قبيلتي «حاشد، وبكيل» – لـمذهبه، ودولته الدينية التي اختطفت المذهب «الزيدي»، وأفرغته من محتـواه، وحصرت الإمامة في كل من خرج من نسل «الحسن، والحسين».

  لم يَكن مَقدم «الهادي» يحيى بن الحسين إلى صعدة، بِطلب من أعيانها، إلا بداية لتوالي قدوم الطامحين من أبناء عمومته، وغيرهم، لمنافسة أحفاده في الحكم والإمامة، في البدء قدِم القاسم العياني، ثم القاسم الزيدي، ثم أبو هاشم الحسني، ثم أبو الفتح الديلمي، تلقف غالبية أبناء القبائل الشمالية دعواتهم، وضحوا في سبيل نُصرتهم بالمال والرجال.
ومن «صيد البرار» بخارف، مروراً بوادي «المنوى» في أرحب، وصولاً إلى قاع «الديلمي» في ذمار، وحصن «هران» في عنس، ثمة شواهد مُتناثرة، تحكي بأسى تفاصيل تلك المأساة، ومن يدري؛ ربما يكون بعض أولئك القادمين قد ادعوا نسبهم «العلوي» ذاك؛ طمعاً في الإمامة، واستغلالاً لسذاجة أنصارها اليمنيين، والكهنوت – كما قيل – بدأ عندما التقي أكبر مُحتال بأكبر مُغفل!!.
بازدياد توافد أولئك الطامحين، ازداد التنافس فيما بينهم، لترتفع وتيرته أكثر فأكثر؛ خاصة عندما هَجر أبناء القبائل الشمالية مَزارعهم، وحملوا أسلحتهم لمناصرة هذا القادم أو ذاك، جَاعلين من جُغرافيتهم المُستلبة أرضاً مُلتهبة بالدم والصراعات، لا تتوقف على ظهرها معركة، إلا لتبدأ أخرى أشد ضراوة.
قدم «الهادي» يحيى إلى اليمن، فلحق به آلاف المُقاتلين، مُعظمهم من فارس، لتحـل الطامة الكبرى بانقياد «الهمدانيين» – أبناء قبيلتي «حاشد، وبكيل» – لـمذهبه، ودولته الدينية التي اختطفت المذهب «الزيدي»، وأفرغته من محتـواه، وحصرت الإمامة في كل من خرج من نسل «الحسن، والحسين»، شاهراً سيفه، عالماً بالكتاب والسنة، في مخالفةٍ صريحةٍ لما جاء به الإمام زيد نفسه.
صارت لذرية «الهادي» يحيى، وذرية من قـدمـوا معه مِيـزة وحقوق أكثر من سكـان البلد الأصليين، لم يكن بنظر الأخيرين مُحتـلاً؛ بل صـاحب حـق، وله ولذريته السيادة والملك، وما عليهم سوى الطَـاعة والانصياع، في حالة مشابهة لوضع اليمن قبل الإسلام، حيث كان «المكاربة» يحتلون قمة السلم الاجتماعي؛ وذلك لجمعهم بين السلطة الدينية، والسلطة الدنيوية، فهم الكهنة والملوك، ثم يأتي بعدهم الأمراء، ومشايخ القبائل «الأقيال»، ثم الجنود «رجال القبائل»، ثم الفلاحيين، والحرفيين، والعبيد، مع فارق أنَّ «المكاربة» يمنيون.
أنعش الأئمة أسوأ ما في القبائل الشمالية، وخلقوا لها المبررات العقائدية لجعل الفيد دين، والتسلط رجولة، أغـرقوا أبناءها في الجهـل والتوحش، وجرعوهم المعتقدات المسمـومة، ورسَّخوا فيهم التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، وجعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِـهن الحرفية، والأشغال التجارية، وبالنفسية البدوية العنيفة، والعقلية الشيعية الحاقدة، تدفـق هـؤلاء صوب مناطق «اليمن الأسفل» وتهامة كالذئاب المسعورة، قتلوا، ونهبوا، ودمروا جهاداً في سبيل الله، وإعلاءً لراية الإمام.
اليمن أو «اليمن الأسفل»، تسمية ترددت كثيراً في كتب المؤرخين اليمنيين، وهي في الأصل للدلالة على المناطق الواقعة جنوب صنعاء، وباب اليمن تحديداً، ويقابلها في الاتجاه الآخر الشام أو «اليمن الأعلى»، ويقصد بالأخيرة المناطق الواقعة شمال ذات المدينة حتى صعدة، ودلالة التسميتان جغرافية صرفة، وليست مذهبية، أو مناطقية، أو عشائرية كما يعتقد البعض.
وجد الشيعة – «الإسماعلية» و«الزيدية» – في «اليمن الأعلى» مرتعاً خصباً لنشر أفكارهم، وإقامة دولتهم، استمر التنافس بين الفريقين منذ نهاية القرن الثالث الهجري، حتى مُنتصف القرن السادس الهجري، قضى «الأيوبيون» على «الإسماعليين»، فيما ظلت «الإمامة الزيدية» محصورة في المناطق الشمالية، ولم تتحقق لها السيطرة التامة والشاملة على باقي المناطق إلا نهاية القرن الثامن الهجري، عندما بدأت «الدولة الرسولية» تترنح، وهي سيطرة مُتقطعة بفعل التواجد العثماني بمرحلتيه المُنفصلتين.
في دراسة له عن «الأئمة والقبائل»، قال بول دريش – وهو باحث بريطاني يعمل في جامعة اكسفورد – أن الإمامة لا تنطبق عليها التعريفات المرتبطة بكلمة دولة، وأنَّ الدولة تبدوا ظاهرة ثانوية بالنسبة للتاريخ الزيدي، وأضاف: «وفقاً للمعايير الخارجية، تبدو الإمامة دولة، لكنها سرعان ما تتحول إلى لا دولة من سنة إلى أخرى، أو حتى من شهر إلى آخر تقريباً»، وأردف: «وللمطالبة بسلطان أوسع، يراهن السيد على الإمامة، أما غير السيد، فلكي يحصل على نفوذ أكبر؛ فإنه يساند الداعي للإمامة».
هناك من المؤرخين من أشار إلى أنَّ الشيعة في اليمن كان لهم وجود قبل مقدم «الهادي» يحيى، مُستدلين بكثير من الأحداث، جاعلين من خروج علي بن أبي طالب إلى تلك الجهة – مرتين – مُنطلقاً لتلك النزعة، مُشيرين إلى أنَّ «الهمدانيين» استقبلوه بحفاوة بالغة لم يلقاها منهم خالد بن الوليد؛ الأمر الذي جعل الأخير يقول فيهم: «رأوا في علي خؤولة جدَّه، وليس لمخزوم في حمير خؤووله»، ويؤكد ذلك قول الشاعر علي بن حسن الهبل:
أيها السائلون عنا مهلاً
أنا من عترة المليك الهمام
أسعد الكامل الذي كان في الشرق
وفي الغرب نافذ الأحكام
ذاك جدي إذا افتخرت
وأخوالي بنو هاشم نجوم الظلام
من جهته علي بن أبي طالب قال فيهم قصيدة طويلة، نقتطف منها:
فوارس من همدان ليسوا بعزلٍ
غداة الوغى من شاكرٍ وشبامِ
إذا كنت بواباً على باب جنة
أقول لهمدانٍ ادخلوا بسلامِ
ولـ «الهادي» يحيى قصيدة طويلة في مدحهم، جاء فيها:
همدان أنصار النبي وبعده
نصروا الوصيَّ بكل ذات كعوب
حسبي بنصرتهم لدينِ محمدٍ
فهمُ لعمُرك نصرتي ونصيبي
شركاء آل محمد في عزهم
من دون كل مناسبٍ ونسيب
اللافت في الأمر أنَّ «الهمدانيين» هم أول من استجلب الدعم الخارجي ضد أعداءهم المحليين، وذلك بداية القرن الميلادي الأول، وأثناء صراعهم المرير مع «الحميرين»، استنجدوا بالأحباش، وتمكنوا بفعل مساعدتهم من إخضاعِ «الحميريين، والسبئيين» لنفوذهم «127م»، وتلقبوا لبعض الوقت بـ «ملوك سبأ، وذي ريدان»، ضمن الأحباش – بفعل ذلك التحالف – أملاكاً لهم في المناطق التهامية، وصاروا لاعبين رئيسيين في الصراع الدائر، تارة يساندون هذا الطرف، وتارة ذاك، ليتمكن اليمنيون وفي لحظة يقظة وطنية من طردهم.
جاء الأحباش مرة ثانية «345م»، وثالثة «525م»، ليـأتي بعد «72» عاماً – من احتلالهم الأخير – الملك الحميري سيف بن ذي يزن ويطردهم بمساعدة «الأبناء – الفُرس»، الذين رَغَـبهم بالاستحواذ على بلادنا كـغَـنِـيـمة، تاركـاً لهم حُكـم «اليمن الأعلى»، مُكتفياً بحكم «اليمـن الأسفـل» سهل الانقياد، وحين تم قـتـله على يـَد ثـُلَّة من عساكرٍ له أحباش استبقاهم لخدمته، سيطر المُنقذون الجـُـدد – والذين كانوا في الأصل جزءً من تلك المؤامرة – بسهولة ويُسر، وبدعم من «الهمدانيين» على مـا تـبـقى من البـِلاد.
والمفارقة الصادمة أنَّ «الهمدانيين» كما استجلبوا الأحباش من قبل، وقفوا مع «الأبناء» ضد سيف بن ذي يزن، وضد عبهلة العنسي من بعده، وعقدوا حلفاً مشئوماً مناهض للثائرين اليمنيين ضد الاحتلال الفارسي، جاء في مُقدمته: «هذا كتاب ما أجمعت همدان وفارس في اليمن، بمحضر المرزبان باذان بن ساسان، ومشاهدة الرئيسيين عمرو بن الحارث، وعمرو بن يزيد من بكيل وحاشد».
وكما قيل عن الأحباش بأن أصولهم يمنية، قيل ذلك أيضا عن «الأبناء»، وأنهم عادوا مع سيف بن ذي يزن لوطنهم الأصلي، وتوارثوا حكم صنعاء لعدة عقود، واحتلوا رغم قلة عددهم مراكزاً اقتصادية مرموقة، الأمر الذي جعلهم شديدوا التأثير في الأحداث المتلاحقة، أما عن تسميتهم بـ «الأبناء» فتعود إلى أنَّه عندما سئل «ابن ذي يزن» عن هويتهم؛ قال: هم أبنائي، فسموا بذلك؛ وقيل: لأنهم تزوجوا بيمنيات، فتسمى أولادهم وأحفادهم بذلك، والله أعلم.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى