معسكر الثورة المضادة أنفق كل ما لديه من مال ومكر وشرور، لكنه لم يستطع أن يوقف سيل الثورة ما تشهده الجزائر اليوم باستقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وما يشهده السودان من حراك ثوري شعبي جماهيري واسع الطيف، كان بمثابة الرد العملي القاطع على سقوط مقولة فشل الربيع العربي، وانتهائه، ومن ثم نجاح ما يسمونها الثورات المضادة التي موّلت عربيا، وخطط لها غربيا، لإجهاض ثورات الربيع العربي، ومن ثم إجهاض إرادة هذه الشعوب التواقة للحرية والكرامة والاستقلال الجديد.
ما جرى في السنوات الثماني من مؤامرات على امتداد جغرافيا الربيع العربي، من تونس مرورا بليبيا فمصر فسورية فاليمن فالعراق الذي التحق جزء منه بالحراك العربي الديمقراطي، ومع كل ما شوهد من إجرام وقمع، آلت نتائجها إلى الفشل، على الرغم مما قد يظهر أنه حقق بعض نتائجه الآنية، لكن ذلك لا يعني قطعا نجاح هذه المؤامرات في سلب إرادة هذه الشعوب، ومن ثم القضاء على تطلعاتها وآمالها المستقبلية بغد أفضل، وعيشٍ حر كريم.
إرادة الشعوب عبّر عنها شباب الأمة بطرق سلمية مدنية حضارية متقدمة، منذ أقدم محمد البوعزيزي في تونس، قبل ثماني سنوات، على إحراق جسده، احتجاجا على ظلمٍ ناله، ولم يكن يدرك أن فعله سيكون بمثابة عود الثقاب الذي سيفجر كومة القش والبارود التي بنتها جمهوريات العسكر على أنقاض دولة المستعمر الذي ذهب، وترك خلفه هذه النخب العسكرية حامية لمصالحه، بعد أن تضاعفت تكاليف بقائه فيها. ولم تكن هذه اللعبة، أي الحكم بالوكالة، من جمهورية العسكر التي ضاقت بها الشعوب ذرعا، لم تكن قدرا حتميا باستمرارها إلى ما لا نهاية، وإنما أدت تراكمات سياساتها القمعية واللصوصية إلى تراكم السخط العام الذي انفجر فجأة مدمرا كل صور الزيف التي صنعتها أجهزة إعلام حكم العسكر، تلك الصورة الباهتة لصمت القبور، إن صح التعبير، لشعوب مقهورة مغلوبة، يخلق وعيها بحقوقها من رحم كل ذلك القمع والمعاناة سيلا هادرا تفجر في لحظةٍ لم يكن يتوقعها الحكام، ولا حتى أسيادهم ومراكز أبحاثهم التي كانت ترصد كل شيء، وتزيف كثيرا حقائق الواقع في جمهوريات ما بعد الاستقلال العسكرية.
ندرك جيدا أيضاً مدى تماهي الغرب، حامي حمى الديمقراطية وراعي مسيرتها، مع تلك “الثورة لم تمت، على الرغم من بعض الهزائم التي لحقت بالثوار هنا أو هناك” الأنظمة التي ثارت ضدها الشعوب، فجاءت ثورات الربيع، لتضع نقاطا كثيرة على حروفها فيما يتعلق بهذه المقولات الجامدة، فيما يتعلق بالغرب الديمقراطي، وبالنخب الليبرالية والعلمانية المستنيرة، المطالبة أيضاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكيف انكشف أمامنا الغرب العاري من كل القيم المنادي بها، والنخب المنحطة واللصوصية التي تماهت، وتحولت فجأة إلى جوقةٍ من السوقة والمخبرين والأبواق الناعقة بأكاذيب عدم أهلية الشعوب العربية للديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنه لا يصلح لها سوى حكم ديكتاتوري حازم.
لقد صحت الشعوب اليوم، ولم يرهبها حجم (وهول) التضحيات التي قدمتها، ولا سيل الدماء التي سفكت من شبابها وأبطالها، وإنما زادها ذلك إصرارا على المضي في مشروع الانعتاق من ربق الاستبداد والاستحمار بكل صوره السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية. عرفت الشعوب طريقها جيدا نحو إرادتها وحريتها، وهي اليوم أكثر قدرةً على النضال والصبر والتضحية من أي قوتٍ مضى، وتعاظمت أمام هذه الأمة قيمة الكرامة والحرية، وثمنها الغالي من الدماء والمعاناة.
أما معسكر الثورة المضادة فقد أنفق كل ما لديه من مال ومكر وشرور، لكنه لم يستطع أن يوقف سيل الثورة وإرادة الحرية والكرامة، وإنما انكشف أكثر فأكثر عن ما هو فيه من مؤامرة وانحطاط قيمي وأخلاقي وإفلاس سياسي، ستكون نتائجه وخيمةً ومدمرةً على حملة هذا المشروع التخريبي والتدميري للقيم والأوطان معا.
ما تشهده المنطقة العربية اليوم، حتى في بلدان الموجة الأولى للربيع العربي، والتي عول كثيرون على قتل روح الثورة فيها، إلا أنهم لم يستطيعوا، ولن يقدروا على ذلك، بفعل هذا الوعي الخلاق وروح الإصرار على الانتصار، مهما كانت التداعيات، فما حصل، قبل أسابيع، في مدينة درعا السورية التي سقطت بيد النظام، وأراد أن يعيد الإعمار فيها، مبتدئا بإعادة بناء تمثال للرئيس السابق، حافظ الأسد، مكان التمثال السابق الذي دمره الثوار، فخرجت مظاهرة في المدينة، مندّدة بذلك، في دلالة عميقة على أن الثورة لم تمت، على الرغم من بعض الهزائم التي لحقت بالثوار هنا أو هناك، بفعل الإخفاق في إدارة الثورة، وتسلل المخبرين إلى قلبها، وحرف مسارها، لتمكين أعدائها من ضربها وإجهاضها.
نقلا عن العربي الجديد