كتابات خاصة

المطلق والنسبي

د. عبدالله القيسي

لو قرأنا تاريخ كل الحضارات لوجدنا بينها رابطا مشتركا وهو أنها تبحث عن آلهة كي تشبع ما في أعماقها من شعور التدين يقول المفكر المصري مراد وهبه في كتابه قصة الفلسفة: “إن قصة الفلسفة هي قصة البحث عن المطلق، والمطلق هو الموجود القائم بذاته وليس قائماً بغيره، غير أن المطلق لا يفهم إلا في مقابل النسبي، وهنا نشأ سؤال آخر وهو ما الصلة بين المطلق والنسبي؟ سؤال فلسفي الجواب عنه يحكي قصة الفلسفة”.

ولأن الفلاسفة –برأيي- هم عقل الأمم لأنهم من يتصدى للإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تدور في أذهان البشرية عبر العقل، كانت قصة الفلسفة هي قصة البشرية أيضا. ولو تأملنا قليلا في تعريفهم للمطلق لوجدنا أن ما يسمونه بـ (المطلق) هو ما يسميه الدين “الخالق” الذي خلق كل شيء والمتصف بالكمال المطلق، والذي لا يحتاج إلى غيره وهو (الله)، أما ما يسمونه بـ (النسبي) فهو “المخلوق” الذي ليس قائما بذاته وإنما يحتاج إلى غيره وهو ما عدا (الله) من جميع المخلوقات وعلى رأسها الإنسان.
والوسيلة التي ينطلق منها الفلاسفة في بحثهم عن المطلق والنسبي هي وسيلة التفكير العقلي، ولذا فإنهم يجدون في إدراك المطلق صعوبة كبيرة، وإن استطاعوا أن يصلوا لحقيقة المطلق مرة، فإنهم ربما يخسرون مرات، وأما إدراك علاقة المطلق بالنسبي فربما أصعب عليهم من سابقتها.
وهنا جاء الدين بوسيلة ثالثة لإدراك الحقائق بجوار الحواس والعقل وهي الوحي، أي وحي الله إلى رسله لكشف ذلك الغيب الذي لا تستطيع العقول وحدها إدراكه، وليبصّر الناس بالمطلق (الله) حتى لا تحتار عقولهم فيه نظرا لضعف قدراتهم على فهم ذلك، كما عرفهم على الخطوط العامة لفهم النسبي (المخلوقات) وترك تفصيلات هذا العالم للعقل البشري ليصل فيه إلى أعلى مستوى من الحكمة، كما عرفهم كذلك على طبيعة العلاقة بين المطلق والنسبي (الخالق والمخلوق) وهي علاقة العبودية له وحده كونه من يمتلك صفات الكمال.
ففي أعماق الإنسان يسكن التدين والخضوع والعبودية، ولو قرأنا تاريخ كل الحضارات لوجدنا بينها رابطا مشتركا وهو أنها تبحث عن آلهة كي تشبع ما في أعماقها من شعور التدين، وهذا يعني تلك الخاصية التي منحها الله للإنسان ليبحث عن الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء، فإذا ما صرف الإنسان ذلك الخضوع والتذلل والعبودية لله وحده فإنه يكون حرا فيما سواه، ويكون أكبر حر يمشي على الأرض، وإن لم تكن لله فستكون حتما لغيره، وتخيلوا معي كيف سيكون حاله إن خضع لإنسان مثله أو جماد أو غيره، إنه في هذه الحالة يصير بلا حرية حتى وإن ادعى ذلك. فتلك العبودية الموجودة في أعماقنا لا تنصرف إلا في اتجاه واحد فقط، هو اتجاه الكمال المطلق، فإن صرفت في غيره عاش الإنسان أسيراً للنقص النسبي.
إن الوجود مليء بالحقائق المنثورة في أرجائه، والإنسان مذ خلق في بحث دائم عن تلك الحقائق، والمتأمل للوسائل التي زود الله بها ذلك الإنسان وهي الحواس والعقل والوحي، سيجد أنه بتلك الوسائل يستطيع الوصول إلى تلك الحقائق بمستوياتها المختلفة. فالحقائق -بالنظر إلى وسائل إدراكها- مستويات ثلاثة:
أما المستوى الأول من الحقائق فهي تلك التي تبحث عن قيم الحق الكبرى وهي: من أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين سنذهب؟ وكل هذه أسئلة تدور حول عالم الغيب (الميتافيزيقيا).
أما المستوى الثاني من الحقائق فهي تلك التي تبحث عن قيم الخير الذي يصلح حياة الإنسان في عالم الشهادة، ويأتي الشر هنا ليكون كاشفا للخير.
أما المستوى الثالث من الحقائق فهي تلك التي تبحث عن قيم الجمال الذي يحقق كمال السعادة للإنسان، ويأتي القبح هنا ليكون كاشفا للجمال.
إذن هي مستويات ثلاثة فيها الحق وفيها الباطل، فيها الخير وفيها الشر، فيها الجمال وفيها القبح. فالحقائق في المستوى الأول: يجد العقل في إدراكها صعوبة، وإن استطاع أن يدركها مرة، فإنه يخسر مرات، ويشترك مع العقل القلب في إدراك هذا النوع من الحقائق، فالعقل يتأمل والقلب يصفي ويغذي. ولأن العقل غير قادر على إدراكها في كل حالاته، لذا فقد أرسل خالق الكون والإنسان رسلاً من الملائكة إلى رسل من البشر كي يخبرونا بهذا النوع من الحقائق، فيجيبون على أهم أسئلة حار فيها عقل الإنسان، وهي أسئلة الغيب، فعرفنا أنا نحتاج لإدراك هذا المستوى من الحقائق إلى الوحي من الله بجوار عمل العقل والقلب.
أما الحقائق في المستوى الثاني: فيمكن للعقل إدراكها، والعقل بشقه الفطري والكسبي يتوزع إدراك تلك الحقائق، فالعقل الفطري -وهو الذي يشترك فيه جميع الناس-يُعرف به قيم الخير والشر التي هي موضوعنا الآن، وأما العقل الكسبي -وهو الذي يختلف فيه الناس بحسب ثقافتهم ومعرفتهم وتجربتهم وتأملهم وعلى أساسه يختلفون في العمق والتسطيح لتفسير الأحداث والقضايا -فيستطيع أن يكتشف حقائق أخرى غير السابقة، وهي الحقائق المركبة، فيقوم بعمله في التحليل والتركيب والنقد، ليصل إلى حقائق أعمق، وكلما زاد الغوص زاد العمق.
أما الحقائق في المستوى الثالث: فيمكن إدراكها بالحواس الخمس، فتدرك العين بالبصر المنظر الجميل والقبيح، وتدرك الأذن بالسمع الصوت الجميل والقبيح، ويدرك الفم بالذوق الطعم اللذيذ من غيره، وتدرك اليد باللمس الناعم من غيره، وهناك قدر كبير من الجمال والقبح يتفق الناس عليه بفطرتهم أي بالعقل الفطري، كما أن هناك أيضا ما يختلفون فيه بحسب ثقافاتهم أي بالعقل الكسبي.
فالدين إذن يسد لنا تلك الفجوة التي يبحث عنها الفلاسفة في مبحث الوجود، ومبحث المعرفة، ومبحث القيم، تلك المباحث التي تمثل موضوع الفلسفة.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى