فنون

بحثاً عن الصورة… 3 أفلام عربية “واقعية” في باريس

الفيلم اللبناني، المُنتج عام 2003، يسرد رحلة بحث عن صور مفقودة، بعد وصول رسالة إلكترونية إلى المخرِجَين، عام 2000، تُعلمهما باختفاء نسخة من الفيلم الأول لهما، “البيت الزهر” (1999)، في ظروف غامضة في اليمن  يمن مونيتور/العربي الجديد
في الدورة الـ41 للمهرجان الوثائقي “سينما الواقع”، الذي اختتم يوم الأحد الماضي في “مركز جورج بومبيدو الثقافي” (باريس)، عُرض فيلمان سوريان في برنامجين اثنين خارج المسابقات. أولهما وثائقي طويل بعنوان “لسّه عم تسجل” لسعيد البطل وغياث أيوب، وثانيهما قصير بعنوان “باك يارد” لخالد عبد الواحد.
برنامج مشترك بين “مهرجان سينما الواقع” و”المركز الوطني للفنون التشكيلية” و”مهرجان مرسيليا الدولي”، أتاح فرصة مُشاهدة “باك يارد”، بالإضافة إلى “الفيلم المفقود” للّبنانيين جوانا حاجي توما وخليل جريج. بين الفيلمين علاقة، رغم أنّ هناك 15 عامًا تفصل بينهما.
الفيلم اللبناني، المُنتج عام 2003، يسرد رحلة بحث عن صور مفقودة، بعد وصول رسالة إلكترونية إلى المخرِجَين، عام 2000، تُعلمهما باختفاء نسخة من الفيلم الأول لهما، “البيت الزهر” (1999)، في ظروف غامضة في اليمن، في يوم تاريخي، كان يُحتفل فيه هناك بالذكرى الـ10 للوحدة بين اليمنين. مفاجأة؟ من يهتم بنسخة فيلم في العالم العربي؟ عامٌ واحدٌ بعدها، وفي المناسبة نفسها، يتوجّه المخرجان إلى صنعاء، لتتبّع أثر الفيلم، فهل يعثران عليه؟ لا شيء سوى تخمينات تُسرَد في أسلوب طريف وممتع، مع لقطات لأمكنة وحياة لم تعدْ موجودة في يمنٍ كان سعيدًا يومًا ما.
في الفيلم نفسه، سعى الواقع إلى استرداد الصورة. لكن، كيف يُستردّ واقعٌ من خلال صورة؟
هذا سعي السوري خالد عبد الواحد في “باك يارد”. ففي الفيلمين معًا، تحقيقٌ عن اختفاء، واشتغال على ذاكرة، ومحاولة استرداد. استرداد فيلم ضائع، واسترداد واقع تجسِّده صورة.
يُستهلُّ “باك يارد” (26 د.) بصورة حقل من الصبار. في العمق، شجرات سرو، وفي الأجواء إيحاء قوي بحزن بلد وغروبه. حين صُوِّر في جنوب شرق دمشق، نهاية التسعينيات الفائتة، لم يكن عبد الواحد يعلم أنها ستكون “الصورة الأخيرة” لمنظر سيُمحى من الوجود.
 
 
 
 
في ألمانيا، مكان إقامته الحالي، يشتغل على الصورة، وعلى إعادة تشكيلها سينمائيًا. هي بطلة فيلمه القصير. تتداخل ذاكرته الماضية، المتمثّلة بهذه الصورة التي كانت يومًا “ساحة خارجية” لبيته السوري، بساحةٍ خارجية معتمة لبيته الألماني. مَشاهد تتفحّص فيها يدان الصورةَ القديمة، وتمرّ على زواياها، وتعيد تركيبها، لتعبِّر عن حاضر عَبَرَتْ عليه مصفّحات، وظلّلته طائرات، وسالتْ على أرضه دماء، وغطّاه رمادٌ ودخان. لا شيء سوى تحوّلات تشكيلية على صورة، تُجسّد واقعًا ضائعًا، ومحاولات تجسيد واقع جديد عليها، بقضاء تدريجي على محتوياتها، وعلى هذا الحقل الصابر ماضيًا على محاولات تدميره.
خالد عبد الواحد مُصوّرٌ أضاع صُوَره كلّها، الغالية على قلبه. لكنه لم يعرف أهميتها حقًا إلا عند لقائه في ألمانيا مَن أخبره بأنّ تلك الحقول كلّها تحوّلت إلى مبانٍ، عام 2014، أي في وقت التدمير الجاري قصفًا على البلد.
لم يبق من المنظر المألوف لعبد الواحد، حيث كان يتنزه مع والديه، سوى هذه الصورة. الفيلم، بالنسبة إليه، إعادة بناء ذاكرة، وتحدٍ لدرء الخسارة: “بيتي ومدرستي كانا هناك. كنت أتنزه مع والديّ قرب هذا الحقل، الذي يُشكّل فاصلاً بين المدينة وريفها. كيف يُمكن إزالته من تاريخ مدينة؟”، يتساءل عبد الواحد في لقائه الجمهور بعد عرض الفيلم، مضيفًا: “هو هنا منذ أكثر من 200 عام. كيف دُمِّر وحُذِف من ذاكرتنا وتاريخنا؟”. الحرب أعطت فرصة ذهبية للقوى الجشعة كلّها لامتصاص الدماء والمساحات، والحقل بات بناء: “ربما سيكون فندقًا سياحيًا، أو أماكن ترفيه، أو مراكز تجارية”. أشياء من هذا القبيل تُخرِّب وطنًا وتقضي على تاريخ.
تخريب وطن ونفوس حاضرٌ أيضًا في فيلم مؤلم، عنوانه “لسّه عم تسجّل” لسعيد البطل وغياث أيوب، عُرض في برنامج “الجبهة الشعبية”، وهو قسم جديد في المهرجان يبحث في الدور السياسي للسينما، والدور الملتزم للمهرجان. سؤال هذا العام عن سُلطة الصُوَر، وكيف يُمكن لصُوَرٍ، تطرح موضوع النضال، التغلّب على القمع. وأيضًا عن قدرة السينما ووسائلها للتعبير عن الثورات وتمرّد الشعوب، وعمّا إذا كانت للصُور إمكانية تصوّر مستقبل آخر، أو المساعدة على الوصول إليه.
سعيد، ابن طرطوس كان يدرس الهندسة في دمشق، التي غادرها عام 2011 إلى الغوطة الشرقية، ليساهم في الثورة السورية. يلتحق به صديقه ميلاد، الطالب في معهد الفنون الجميلة (رسّام ونحّات) في دوما، حيث الحماسة الثورية للشباب آنذاك على أشدها، قبل الحرب والحصار. صُوِّر في 4 أعوام، بشكلٍ يومي، على إيقاع القصف: لعب الأطفال في البيوت المدمّرة، وضحكات المقاتلين وسخريتهم، والموت والجنون والشباب، وتدبير أمور في القتال والحصار. صُوَر أرض وأناس قرّروا عدم الخضوع، ونظرة عميقة ومكثّفة واستثنائية إلى الحرب، في عمل سينمائي إنسانيّ.
450 ساعة اختصرها التوليف بساعتين، معظمها في دوما، تتخلّلها مشاهد من حياة الشابين في دمشق. في المشهد الافتتاحي، يعطي سعيد دروسًا في التصوير لشباب المنطقة. تلميحات ودية لطرطوس وأهلها، بالقول إنهم جميعهم مع النظام. يرصد سعيد لاحقًا تحرّكات المقاتلين وارتباكاتهم في البداية وعدم خبرتهم، مع تحرير “الجيش السوري الحرّ” مركز دوما، وصعوبة القيادة والتنظيم لمن حظي بالحرية بعد طول قمع.
بعضهم يريد الانتقام من أسرى، وآخرون يمنع ضربهم: “أعطِهم الأمان”. أحد أقسى المشاهد: يُلقي مقاتلون القبض على عنصر من الجيش، يردِّد أمامهم: “أجبرونا يا زلمي”. تُرافق العدسة تفاصيل الحياة في دوما، وحيوية المقاتلين، وإيمان الأهالي. وترصد ـ بشكلٍ عميق ومبهر ـ التحوّل التدريجي لبراءة الأيام الأولى وسلميّتها وآمالها على أرض الواقع، وفي سلوك الناس. ثم القتال فالتعب واليأس من انتصار لا يأتي. يلتقط بحساسية الشخصية السورية الساخرة، والمواقف المتباينة الشجاعة والخائفة، كهذا الموقف: “لم أذهب في مظاهرة، لا أريد أن أركض هربًا”. لكن الجميع لا يهربون؟ “نعم، لكنّي لا أريد الموت”.
“يرصد الفيلم ما حدث من أجلنا، ومن أجل جيلنا كلنا، هذا الذي آمن بالثورة. إنه تأمّل وتفكير بعين هادئة لمحاولة تعلّم دروس ضائعة أو منسية”، يقول سعيد البطل في كتيّب الفيلم. بالنسبة إليه، الفيلم “رغبة في فهم، ومحاولة فهم المتناقضات، في وضع استثنائي للحرب، وبحث عن تعريف كلمة فنان ودوره في المجتمع”. فما هو الفن في الثورة، وفي الحرب، وفي الموت؟
“لسّه عم تسجل” رحلة عودة إلى دوما والثورة، واستكشاف ما حدث، بالنجاحات والإخفاقات والآمال. بحث واستقصاء لمواضيع وهواجس تسكننا: الانتماء والموت، والتساؤل عمّا يُحدّد بعض خيارات الحياة.
العمل أبعد من أن يكون شهادة شخصية، بتعبير غياث أيوب: “إنه مسؤولية أخلاقية تجاه جيلنا. لا أريد لهذه القصص أن تُنسى”. أما صديقهما الثالث ميلاد، الظاهر في مواقف مختلفة وهو يعلّم صغار دوما تلوين الجدران، ومعها تلوين حياتهم القاسية، فيكتب أنه كان يفاجأ أحيانًا برغبة عميقة في أن يفعل كأصدقائه وهم يستسلمون ويُهْزَمون ويخسرون ويرحلون ويهربون. يودّ الاستسلام لفكرة المؤامرة الكبرى، التي لا يستطيع شيئًا إزاءها. يودّ سحق إرادته بالتغيير، وإقناع نفسه بأنْ لا أثر لأفعاله على العالم، لأن أمامه قوة تتحكم بمجرى حياته وبالتاريخ. لكن، حينها، “سيكون طموحي الوحيد النجاح الشخصي. أعتقد بعمق أن الموت أرحم من الانكفاء والعيش مقموعين في حياة بلا أحلام”.
ميلاد يؤمن بأن هذا الفيلم بداية كفاحه هو، ليضع اللمسات الأخيرة على هذا الحلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى