ما وقع في الجزائر في الأسابيع الماضية يؤكد أن تغييرات رئيسية قد وقعت في اجواء الشعوب العربية. فالحالة العربية التي تطورت منذ عام 2011 والتي تتلخص بالمطالب بتوسعة وإصلاح وتغيير الفضاء السياسي العربي ما وقع في الجزائر في الأسابيع الماضية يؤكد أن تغييرات رئيسية قد وقعت في اجواء الشعوب العربية. فالحالة العربية التي تطورت منذ عام 2011 والتي تتلخص بالمطالب بتوسعة وإصلاح وتغيير الفضاء السياسي العربي لازالت قائمة ومتواصلة في قاع المجتمعات العربية. الفرضية الأساسية أن الشعوب العربية تغيرت و لم تعد تتقبل ما كانت تتقبله في السابق من انزواء عن الحياة السياسية ومن عدم مشاركة في القضايا العامة. إن حاجة المواطنين العرب للمشاركة الديمقراطية في حالة ارتفاع في الإقليم، بل لا يبدو أن هذه الحاجة ستتراجع في الزمن القادم. إن مطالب المواطنين بحياة أفضل ومشاركة واضحة وحقوق أصلية تقرع على المزيد من الأبواب.
لقد انتظر الجزائريون بصبر منذ نهاية حربهم الأهلية الدموية في 2002 على أمل أن يقع الإصلاح، بل انبثقت الموجه الراهنة للتغيير، والمستمرة منذ أكثر من شهر، بعد أن تبخرت الوعود المقدمة للجزائريين، على مدى العقود، بالإصلاح السياسي والاقتصادي. وبالفعل، وكما يحدث في كل الحالات، أدت حادثة تجديد رئاسة بوتفليقة للمرة الخامسة الى الكثير من التغيير والحراك الشعبي. ففي هذا التجديد تداخلت الأوضاع الاقتصادية كالفقر وجمود الحياة السياسية ومطالب المجتمع المختلف في العمل والعدالة ومواجهة البطالة لتخلق حراكا مفاجئا. ويقترن هذا الوضع مع معرفة الجزائريين بأن بلدهم غني بغازه ونفطه وزراعته وثرواته الطبيعية الأخرى، إنه بلد قريب من أوروبا جغرافيا وقد ناضل شعبه في حرب تحرير الجزائر ودفع ثمنا كبيرا ليكون مستقلا عن فرنسا الاستعمارية.
ان الحراك الثوري الجزائري الراهن أعمق مما يبدو، فالواضح من خلال التظاهرات الراهنة أن الشارع الجزائري لم يعد يثق بنخبته السياسية بكل صنوفها بما في ذلك المعارضة التقليدية. إذ يبدو من المشهد أن الجزائريين يبحثون عن جمهورية ثانية. لقد فتح الحراك الجزائري أمام المجتمع اليات جديدة للتغيير السلمي، ففي كل أسبوع ينضم المزيد من الجزائريين للحراك كما فعل القضاة الجمعة الماضية. إن قراءة شعارات الحراك وأجوائه السياسية تجعل المحلل أقرب للاستنتاج بأن الحركة السياسية الجزائرية الراهنة لم تعد تريد إصلاحا عابرا، بل يبحث الجزائريون عن تغير أشمل يصيب الطبقة السياسية. ان السعي نحو وضع دستور جديد للبلاد، كما يبدو من أطروحات المتظاهرين، تحول لإحدى ابجديات مطالب المتظاهرين.
سيدافع النظام الجزائري عن منظوره عبر استخدامه الادوات المتوفرة لديه، وذلك بهدف التأثير على المطالب والتخفيف من زخمها. هذا التصرف لن يكون جديدا في الواقع السياسي العربي و الجزائري. و بنفس الوقت، وبسبب أحداث الحرب الأهلية الجزائرية القاتلة في التسعينيات، سيتردد النظام في استخدام القوة، كما أن الشعب الجزائري لن يلجأ إلا للنضال السلمي. فهناك دروس كبيرة تعود لمرحلة العنف التي سادت الجزائر في تسعينيات القرن العشرين.
الشعوب العربية تغيرت ولم تعد تتقبل ما كانت تتقبله في السابق من انزواء عن الحياة السياسية ومن عدم مشاركة في القضايا العامة
وتعاني الجزائر كما هو حال دول عربية كثيرة من تداخل رأس المال مع السلطة، هذا التداخل لم يكن قائما في عهد الرئيس بومدين على سبيل المثال. التداخل بين رأس المال والأمن وبين المال والسلطة غير كل المعادلات وفتح الباب واسعا لأزمة العدالة الاجتماعية والفوارق بين الفئات. كان الرئيس بومدين يقول، وفق مذكرات من عاصروه، لمن يشترك في حكومته من وزراء وشخصيات: اما ثروة أو ثورة، لكن الاثنين يجب ان لا يجتمعا.
لكن هل من الممكن ازالة كل الطبقة السياسية الراهنة في الجزائر دون تعريض الدولة للانهيار؟ وهل بالإمكان في لحظة تاريخية إيجاد صفقة مع الدولة العميقة الجزائرية لصالح الديمقراطية والتغيير؟ فالانتقال الديمقراطي، كما يبدو بعد أسابيع على حراك الجزائر، هو جوهر المرحلة الجزائرية. الجزائر تبحث كما يؤكد لسان حالها: عن حكومة مساءلة لديها صلاحيات، وعن حكومة يمكن تغيرها عبر صناديق الاقتراع، وعن اقتصاد تنافسي و نهاية لعهد الفساد وهدر الاموال وتوزيع المكاسب. الشعب الجزائري كما توضح التظاهرات والشعارات المرفوعة يبحث عن بلد أكثر حرية وأكثر احتراما للإنسان.
لقد بدأ التغيير في الجزائر، لكن طريقه سيكون متعرجا، إذ تقول لنا التجربة ان التغيير لا يقع بين يوم وليلة، فهناك من يريد الالتفاف على المطالب بينما الشارع يتمسك بمطالب بناء جزائر جديدة. إن مرحلة الأخضر الإبراهيمي، بصفته رجل التسويات والحلول الوسط، قد تكون قصيرة. فمهمته قد لا تنجح في ظل أزمة الثقة بين المتظاهرين وبين السلطة السياسية الراهنة. قد يكون الإبراهيمي قد جاء متأخرا وهذا يعني ان لديه فرصة لكن ضعيفة لتغير المزاج الشعبي الراهن. ومن الطبيعي أن يواجه الأخضر الإبراهيمي صعوبة في ايجاد من يفاوض نيابة عن الشارع خاصة في ظل ضعف أحزاب المعارضة وعدم الثقة بتوجهاتها. لهذا يمكن الاستنتاج بأن الشارع الجزائري يسير بخطى سريعة ضاغطا لتلبية مطالب انتخاب مجلس دستوري يقوم بكتابة دستور جديد للبلاد. وقد يكون هذا هو المدخل الأهم، حتى لو جاء بعد فترة متعرجة من النضال السلمي، في تأمين انتقال سلمي شفاف. ان استمرار سلمية الحراك قد يحوله لنموذج جديد لمدرسة التغير السلمي الديمقراطي، لكن ذلك يقع في ظل تجربة للجزائر هي في بداياتها وفي طور النمو. ان ما يقع في الجزائر، قلب الثورة الاهم ضد الاستعمار القديم في خمسينيات القرن العشرين، يضع الأساس لمطالب الديمقراطية في إقليم عربي متعطش للتغير والتحرر.
نقلا عن القدس العربي