كتابات خاصة

إدراك عقلي أم قلبي؟

د. عبدالله القيسي

القلب المقصود هنا ليس ذلك العضو العضلي الذي يضخ الدم عبر الأوعية الدموية، وإنما هو ذلك الجانب المعنوي اللامادي الذي يشكل الجانب المكمل لجسد الإنسان، وربما له علاقة بذلك العضو لا ندرك كنهها.

لا أريد أن أكرر ما ذكرته في المقال السابق من أهمية تحرير المصطلحات استنادَا إلى أول نص لغوي موثوق به وهو القرآن الكريم.. في هذا المقال أتوقف عند مصطلح آخر من مصطلحات الحقل المعرفي تراكمت عليه الحمولات التاريخية حتى صار يعطي معنى غير المعنى الذي جاء به القرآن، وهو مصطلح العقل، إذ صاروا يتعاملون اصطلاحًا ومفهومًا مع مصطلح العقل على أنه أداة المعرفة، ويتحدثون عن “الإدراك العقلي” مقابلا لـ”لإدراك الحسي”، بينما يتحدث القرآن أن وسيلة وأداة المعرفة هي القلب، والمعرفة الناتجة عن القلب “إدراك قلبي”، بينما العقل أو التعقُّل هي إحدى وظائف القلب فقط، فالعقل بالنسبة للقلب كما الإحساس بالنسبة للحواس.
 والقلب المقصود هنا ليس ذلك العضو العضلي الذي يضخ الدم عبر الأوعية الدموية، وإنما هو ذلك الجانب المعنوي اللامادي الذي يشكل الجانب المكمل لجسد الإنسان، وربما له علاقة بذلك العضو لا ندرك كنهها، فالقلب هو محل التعقُّل والتفقّه والتفكّر والتدبّر والنظر والإدراك والسكون، يقول أبو حامد الغزالي “هو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاتب والمطالب”. ومكانه كما تحدثت الآية في الصدر، {وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وهذا يخالف ذلك الكلام الشائع عن أنَّ العقل وظيفته الإرادة والتفكير وعملياته، والقلب وظيفته العاطفة والأحاسيس الوجدانية، إذ كل ذلك من وظائف القلب بحسب الرؤية القرآنية، ولكن بتفصيل أكثر حين نعرف الفرق بين الفؤاد والقلب.
وقد وصفت الآيات القلب باعتباره الجانب الباطن بعدة صفات، فمنه سليم، ومنه مريض، ومنه منيب، ومنه مطبوع عليه، ومنه مختوم عليه، ومنه الغليظ، ومنه المتكبر، ومنه المطمئن، وعليه مدار الهداية والضلال، وعليه ينزل الروح، وعليه مدار التدبر أو الإقفال، وعليه تنزل السكينة، وله نطلب عدم الزيغ.
أما وظائف القلب المعرفية فيمكن إجمالها في التالي:
التذكر: وظيفة إدراكية لتحصيل المعرفة، ويكون باسترجاع المعاني، يقول تعالى: “وما يذكر إلا أولوا الألباب”، “ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون”، “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ”.
يقول الجوهري: وذكرت الشيء بعد النسيان وذكرته بلساني وبقلبي،.. وقال ابن القيم: والتذكر تفعل من الذكر، وهو ضد النسيان، وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب، واختير له بناء التفعل لحصوله بعد مهلة وتدرج، كالتبصر والتفهم والتعلم.
التعقل: وهو من أعمال القلب،{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا }. وقد ورد لفظ التعقل في القرآن الكريم بصيغ عدة، وورد بمعنى التمييز والمنع، التمييز بالبيان الذي جعله الله تعالى من آياته، والامتناع هو المطلوب والإنسان مخير فيه، فإن لم يتعقل فلا يصل إليه، أي إنه لا يميز النافع من الضار، والخير من الشر، وأصل العقل من عقلت الناقة أي ربطتها حتى لا تهرب، فللعقل دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس.
التفقه: مأخوذ من الفقه، وهو الفهم بالعلم والحذق في الصيغة اللفظية والبيان، وهو العلم بمقتضى الكلام مع تأمله، وقد وصفت الآية فريقا من الناس عطلوا تلك الوظفية فــ{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}.
التفكر: هو تردد القلب في الشيء حتى يستقر، أي القوة المهيأة للعلم التي تؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للسكون، ولا يقال فكر إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب.
جاء في لسان العرب الفكر والتأمل وإعمال الخاطر في الشيء. واصطلاحا: تصرف القلب في معني الأشياء لدرك المطلوب. وهو التدبر والاعتبار. والتفكر في أي موضوع من المواضيع يعني إعمال الفكر إعمالا واسعا وعميقا ومنظما.
التدبر: تدور مادة الكلمة حول أواخر الأمور وعواقبها وأدبارها ، فالتدبُّر هو: النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه. وهو النظر في عاقبة الشيء.
وقال الجرجاني في تعريف التدبر: “عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكرَ تصرفُ القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب “.
وقال ابن عاشور: “والتدبّر مشتقّ من الدُّبر، أي الظَّهر، اشتقّوا من الدُّبر فعلاً، فقالوا: تدبّر إذا نظر في دبر الأمر، أي في غائبه أو في عاقبته، فهو من الأفعال التي اشتقّت من الأسماء الجامدة. والتدبّر يتعدّى إلى المتأمَّل فيه بنفسه، يقال: تدبّر الأمَر. فمعنى (يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يتأمّلون دلالته، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين، أي تدبّر تفاصيله؛ وثانيهما أن يتأمّلوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله، وأنّ الذي جاء به صادق”. وقال أيضاً: ” والتدبر : إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له . وأصله أنه من النظر في دُبُر الأمر ، أي فيما لا يظهر منه للمتأمل بادئ ذي بدء”.
التبصّر: مشتق من البصيرة، وهي فطنة تمنع الإنسان من الغفلة، فالبصيرة قوة مدركة في القلب. “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ”، “فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ”.
النظر: هو قوة إدراكية يمكن بها ترتيب أمور معلومة على وجه يؤدي إلى استعلام ما ليس بمعلوم، وقد ورد النظر في قوله تعالى: “قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين”.
بعد كتابة هذه الوظائف للقلب تذكرت ما استنتجه عالم النفس التربوي بنجامين بلوم في تصنيفه لأهداف التعليم، وهو ما صار يعرف بــ “هرم بلوم”، والذي جعل فيه ستة مستويات كهدف للمجال المعرفي، تبدأ بـ”التذكر” ثم “الفهم” ثم “التطبيق” ثم “التحليل” ثم “التركيب” ثم “التقويم”..
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى