إن مستقبل النظام الأميركي محكوم بقدرته على التجدد، ورغبته في التغيير مع التحكم في التحالفات الجديدة، والانتقال بذكاء من مرحلة إلى أخرى، وما لم يتمكن ذلك النظام القوي من استشراف المستقبل>
عرفت الإنسانية ثورات متعاقبة من صعود وهبوط في حضارات مختلفة، ولازلنا نتذكر الإمبراطورية الرومانية وكيف سيطرت على قلب العالم وتحكمت في أقداره حتى ظهرت عبارة Pax Romana بمعنى الخضوع لمعايير السلام التي حددتها الإمبراطورية الضخمة، كما نعلم أن هناك دولاً سادت ثم بادت، فدوام الحال من المحال، كما يقولون، إذ إن الإمبراطوريات والنظم تحمل في طياتها عوامل انهيارها، مثلما هو الأمر بالنسبة لجسم الإنسان ذاته؛ إذ يحمل معه عوامل فنائه وانتهاء وجوده.
وعندما تقدمت الولايات المتحدة الأميركية لتقود مسيرة العالم المعاصر، وتصدرت المشهد منذ أكثر من قرن كامل مع نهايات الحرب العالمية الأولى التي وضعت أوزارها عندما التقى القادة في مؤتمر “فرساي” وتقدم الرئيس الأميركي “ويلسون” بالنقاط الأربع عشرة المشهورة محاولاً التبشير بميلاد العالم الجديد، رافعاً شعارات الحرية واستقلال الشعوب، وحق تقرير المصير، حتى استبشرت الدول الصغيرة خيراً بتلك الأطروحات الجديدة التي تمخض عنها ميلاد “عصبة الأمم”، كأوّل تنظيم دولي عالمي يحتوي الدول جميعاً بغير استثناء، ومنذ ذلك الحين والولايات المتحدة الأميركية تمثل القوة الأعظم في عالمنا، وتبدو وكأنها زعيمة العالم دون منافس.
وعندما ظهر الاتحاد السوفييتي السابق، واستأثر بقدر من الشراكة في الزعامة الدولية لم يدم ذلك طويلاً، وعندما برزت الصين بقواها البشرية الهائلة، وقدرتها الفائقة على التصنيع، وحققت معدلات كَميَّة كبيرة في عالمنا المعاصر، لم تتمكن هي الأخرى من اللحاق تماماً بالولايات المتحدة الأميركية رغم أنها غزت الأسواق، وفي مقدمتها أسواق الولايات المتحدة الأميركية ذاتها بالسلع والمنتجات الصينية، فضلاً عن ضخامة جيشها واتساع رقعة تأثيرها وتمركزها في زاوية حساسة من شرق آسيا غير بعيدة عن اليابان والكوريتين أو الهند وباكستان، فهي تلك الدولة الضخمة التي اعتنقت الفكر الماركسي وكانت رمزاً للتشدد السياسي والتضامن مع حركات الاستقلال في القارتين الآسيوية والأفريقية.
إن هذه هي الصين تلك الدولة العظيمة التي لم تتمكن حتى الآن من أن تحتل المكانة التي تربعت عليها الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من قرن كامل كانت قد سبقته إرهاصات تشير إلى تصاعد قوة الدولة الأميركية منذ الخروج على “مبدأ مونرو” في العلاقات الدولية الذي كان يقصر التدخل الأميركي على منطقة الأميركيتين دون الاتجاه لمناطق أخرى من العالم، وبذلك فإن تسيد الولايات المتحدة الأميركية ليس وليد الصدفة، ولم يأت بين يوم وليلة، ولكنه تصاعد على أنقاض أوروبا بعد الحربين العالميتين، وجاء نتيجة للتقدم التكنولوجي والتفوق الاقتصادي اللذين حصلت عليهما الولايات المتحدة الأميركية، ولعلي أشير هنا إلى الملاحظات الآتية:
أولاً: يصعب الحديث عن نظام دولي ثابت فهو بطبيعته يختلف من عصر إلى آخر، ويعتمد على المعطيات القائمة، والرموز الحاكمة صاحبة القرار في كل مرحلة، ولذلك فإنه من العبث الحديث عن نظام دولي لا يتغير، بل إن حيوية النظم وقدرتها على تغيير مسارها هي جزء لا يتجزأ من قيمة هذه النظم ذاتها، ولقد أثبت التاريخ أن النظم التي تجمدت ثم شاخت وترهلت لم تجد نفسها في مسار الدول ذات المكانة والتي تحتل مركزاً دولياً معترفاً به في كل الأحوال، كما أن النظم تتأثر أيضاً بالمناخ السياسي السائد في الفضاء الدولي حولها، لذلك فإن القياس الواحد لكل الإمبراطوريات هو ضرب من الفشل، فالإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغرب عنها الشمس قد تأثرت بالثورات الوطنية وعمليات تصفية الاستعمار والتحرك لمواكبة روح العصر وفهم المتغيرات الدولية والتحولات الإقليمية التي تؤدي إلى أوضاع مختلفة.
ثانياً: واهم من يتصور أن أبدية قوة الدولة حقيقة قائمة، فلم نسمع بكيان دولي استمر عبر التاريخ مهما طالت فترة خصوبته، أو ازدهرت قدرته على قهر الجيوش وتحقيق الانتصارات، والأمر ينسحب بالضرورة على الولايات المتحدة الأميركية، فهي دولة لا يزيد عمرها على أربعة قرون، ومع ذلك سيطرت على الدنيا كلها بسبب الثروات الطبيعية والأرض البكر والمياه الوفيرة والمعادن المطمورة في أرضها، ومع ذلك لم يشفع هذا كله لكي يجعل منها دولة قانعة، بل كان دائماً مصدر قلق حول مستقبلها وهاجس أمن في حاضرها وهي الولايات المتحدة الأميركية التي قال عنها حلفاؤها العبارة الشهيرة (إن من يتغطى بالأمريكان فهو بالتأكيد عريان)! فلقد مرت السياسة الأميركية بتجارب صعبة في أميركا اللاتينية وشرق آسيا فضلاً عن منطقة الشرق الأوسط، إذ إن تلك الدولة العظمى العملاقة في كل شيء لا تملك الحصافة السياسية التي تتمتع بها دولة مثل بريطانيا، ولا القدرة على التطلع إلى الأمام مثلما هو الأمر بالنسبة للحضارات المتجددة والأمم القادرة على إفراز قيادات مؤثرة في فترات محورية من تاريخها.
ثالثاً: يعود التفوق الأميركي المعاصر في معظمه إلى الإمكانات الهائلة الناجمة عن الموارد الوفيرة وأيضاً إلى طبيعة التحالفات المتشابكة التي تعتمد عليها الولايات المتحدة الأميركية، وفي مقدمتها ذلك التحالف الثقافي “الأنغلو سكسوني” الذي يجمعها بالمملكة المتحدة على الجانب الآخر من المحيط، وإذا كان هناك قبول عام للسياسة الخارجية الأميركية في غرب أوروبا إلا أن هناك استثناءات تأتي في مقدمتها “فرنسا الديغولية” فضلًا عن مواقف اليسار الأوروبي في بعض مراحله تجاه ما كان يطلق عليه “الإمبريالية الأميركية”.
رابعاً: إن القياس على الحضارات الكبرى والإمبراطوريات العظمى في عصور سبقت لا يصلح أن يكون مقياساً في الحالة الأميركية ذلك أن التقدم التكنولوجي الكاسح والتميز الاقتصادي الواضح قد أدى كله إلى صعوبة التنبؤ باحتمالات انهيار الإمبراطورية الأميركية في القريب العاجل مهما تكاتف الخصوم أو اشتدت المنافسة أو ازدادت الانتقادات ضد واشنطن لتحملها تبعة خطايا العلاقات الدولية بحق أو بغير حق، فالمسئولية الدولية تتركز على الأكبر كما أن من يريد أن يعلق الجرس في رقبة القط فلن يجد أكبر من القط الأميركي الشرس في أغلب الأحيان.
خامساً: لعل أخطر الأمور للدور الأميركي خلال القرنين الأخيرين هو قدرته على جذب الشباب والحصول على إعجاب الأجيال الجديدة التي بهرتها ثقافة رعاة البقر بدءاً من الجينز مروراً بالكوكاكولا وصولاً إلى نمط الوجبات السريعة التي غزت العالم شرقه وغربه، ولقد استطاعت الثقافة الأميركية أن تخترق الحجب وأن تصل إلى المواطن العادي في بلده دون المرور بسلطات تحميه أو دعاية تلاحقه فجاذبية النمط الأميركي تكاد تكون قاسماً مشتركاً بين الشعوب والمجتمعات، بين الشباب والأجيال من مختلف الأعمار والمستويات الاقتصادية والرؤى الاجتماعية.
إن مستقبل النظام الأميركي محكوم بقدرته على التجدد، ورغبته في التغيير مع التحكم في التحالفات الجديدة، والانتقال بذكاء من مرحلة إلى أخرى، وما لم يتمكن ذلك النظام القوي من استشراف المستقبل والتقاط الخيط لن نراه قادراً على أن يقود عالماً يتجدد منذ أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، واشتعلت الحروب الموضعية بديلاً عنها كما انطلقت الولايات المتحدة الأميركية برصيدها الضخم؛ لكي تكون هي ضابط الإطفاء، وشرطي المرور، والحكم الدائم بين الأطراف المتصارعة داخل حدود الدول حتى وإن اختلفت معها (واشنطن)، إن مستقبل النظام الأميركي سوف يحدد بالضرورة مستقبل النظام العالمي كله لأننا نتحدث عن القوة الأعظم في عالمنا المعاصر، وندرك أهمية دورها وخطورة سياساتها ولكننا نرى فيها أيضا عنصر توازن، وركيزة كبرى في قلب العلاقات الدولية المعاصرة.
*نقلا ًعن “أندبندنت عربية”