يُعرّف العنف بأنه آلية من آليات الدفاع عن الذات ضد المخاطر التي تواجه الإنسان من أجل البقاء والاستمرار، كغريزة إنسانية كامنة في الإنسان والحيوان على حد سواء.
يُعرّف العنف بأنه آلية من آليات الدفاع عن الذات ضد المخاطر التي تواجه الإنسان من أجل البقاء والاستمرار، كغريزة إنسانية كامنة في الإنسان والحيوان على حد سواء.
ويعرف الإرهاب بأنه الطرائق والأساليب التي تنتهجُها جماعة ما ضد شخص أو كيان ما معارض لها، بقصد خلق الرهبة والهلع لدى هذا المعارض، مستندا على منظومة فكرية “أيديولوجية” تبرر هذا السلوك وتشجعه.
وبصرف النظر عن الفارق المعجمي بين المصطلحين، فسنتعامل معهما كمفهوم واحد، لتداخلهما “مفاهيميا” وباعتبار أن العنف مقدمة للإرهاب، وأن الإرهاب ــ في غالبه ــ انعكاسٌ سببي للعنف، ورد فعل مباشر وفقا لمبدأ السببية الدوريّة، ناهيك عن أن العنف من أخلاق البشر وفقا للنظرية الخلدونية، وبحسب الشاعر العربي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لم يظلم
وقبل هذا يقرر المبدأ القرآني: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).
على أية حال.. المتتبع لتاريخ نشوء العنف والإرهاب على الأقل من مطلع القرن العشرين يجد أن العنف ارتبط عضويا باليسار منذ نشوء المنظمات العنفية والإرهابية التي تشكلت في روسيا القيصرية قبل اندلاع الثورة البلشفية، لإسقاط حكم القيصر، قبل أن تنتقل عدواه إلى اليمين منذ مطلع الخمسينيات فما بعدها؛ حيث تشكلت مجاميع عنقودية إرهابية بقصد إسقاط نظام الحكم الإقطاعي آنذاك، فقامت المجموعة الثورية الاشتراكية باغتيال وزير الداخلية الروسي “سباياجين” عام 1902م؛ بل لقد كان أول هجوم انتحاري عام 1878م قبل ذلك ضد رئيس وزراء روسيا من قبل عنصر يساري متطرف، وكانت أول شحنة ديناميت وضعت في طائرة روسية عام 1907م، وأول انفجار لسيارة مفخخة كان في “وول ستريت” بنيويورك عام1920م، وفي إيرلندا مارست حركة التحرر الإيرلندية أعمالا إرهابية ما يزيد عن عشرين سنة كاملة ضد بريطانيا بسبب سيطرة الأخيرة على إيرلندا، علما أن هذه الحركة قد قامت بتفجير قنبلة فجرها عنصر إرهابي إيرلندي في أحد شوارع لندن عام 1883م، كما يذهب إلى ذلك الباحث العراقي في شؤون الجماعات الإرهابية إبراهيم الحيدري، وفي تركيا “العثمانية” تشكلت مجاميع إرهابية مارست العنف والإرهاب باسم القضية الأرمينية التي لا تزال حتى اليوم كابوسا للنظام التركي الجديد، كونها قضية قديمة/ جديدة، تعتمد على رصيد من العنف مارسته منذ ما يزيد عن مئة سنة؛ وتستغله جهات ما أيضا اليوم؛ أما ما عرف بعنف الدولة أو إرهاب الدولة فقد مارسته كل من فرنسا عقب ثورة الباستيل، كما مارسه الثوار البلاشفة في روسيا في أبشع صورة، حتى بدا إرهابا متحولا من إرهاب الجماعة إلى إرهاب الدولة.
وفي الوقت الذي انقرضت فيه بعض المنظمات الإرهابية اليسارية التي نشأت في النصف الأول من القرن العشرين استمر نشوء بعضها وتناسلها، منفذا الأعمال الإرهابية سواء ضد المجتمع أم ضد الدولة، كمنظمة الجيش الأحمر اليابانية التي تأسست مطلع سبعينيات القرن الماضي، ونفذت سلسلة أعمال إرهابية داخل اليابان وخارجه. وأيضا منظمة الخلايا الثورة الألمانية “”RZ وهي منظمة يسارية تأسست بداية سبعينيات القرن الماضي في ألمانيا الغربية، وكانت واحدة من أخطر المنظمات الإرهابية هناك، كما صنفتْها وزارة الداخلية الألمانية.
وظل القائد الثوري ارنستو تشي جيفارا ــ وهو يساري عتيد ــ محل إعجاب الشباب الأوروبي؛ بل والعربي منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وإلى اليوم، على الرغم من كونه طبيبا في الأصل، تحول بعد ذلك للعمل الثوري العسكري.
لذا لا غرابة أن ينشأ ما عُرف بالمذهب الفوضوي “اللاسلطة” أو “مجتمع اللادولة” والذي يدين ويستهجن أي سلطة سياسية أو اجتماعية تقوم على أساس من النظام والقانون وتنظيم شؤون الناس؛ مؤكدا أن بقاء وتطور الأجناس يعتمدان على المنافسة والمصالح الأنانية الخاصة، كما يرى هيربرت سبنسر.
وبقليل من التأمل ندرك أن تغول الرأسمالية المتوحشة مع ما صاحبها من الهيمنة الإمبريالية قد ساهم في نشوء وبروز مثل هذه الظواهر، سواء ظاهرة اليسار الإرهابي المتطرف أو اليمين الإرهابي المتطرف بعد ذلك الذي كان تاليا لمرحلة اليسار الذي دمغ الإسلاميين في حقبة الأربعينيات والخمسينيات وما بعدهما بتهمة الخنوع والعمالة والاستسلام للغرب؛ خاصة اليساريين القوميين إبان فترة المد الناصري المناوئ بقوة للسياسة البريطانية في المنطقة العربية وعلاقتها بالإسلاميين خلال تلك الحقبة، مع أن بروز ظاهرة الإسلام السياسي لم تتخلق بصورة أوضح إلا منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وسطع نجمها أكثر مع الجهاد الأفغاني خلال عقد الثمانينيات فالتسعينيات، وحتى العقدين الأوليين من الألفية الجديدة، صَاحبَه أفول تدريجي لليسار العربي الذي صار من التاريخ اليوم، وإن كان له بعض التواجد، غير أن أحداث سبتمبر 2001م قد مثلت مرحلة فارقة ونقطة فاصلة لما يعرف بالإسلام السياسي، ولا تزال تفاصيل هذا التحول تعتمل حتى اللحظة.
وعلى الرغم من بعض المراجعات الفكرية التي أقدمت عليها بعض تيارات الإسلام السياسي إلا أنها لا تزال محل شك وارتياب من قبل الدول الكبرى والدول الفاعلة إقليميا أيضا، إذ تنظر الأنظمة السياسية إلى أن هذه الجماعات تمثل الفقاسة الإرهابية مهما ادعت اعتدالها ووسطيتها.
والواقع أن ظاهرة الإرهاب “المتحولة” يساريا ويمينيا، غربيا وشرقيا ستظل متنقلة وقائمة ما دام الظلم والاحتكار قائما، ولن تتوارى إلا بسياسة رشيدة من صنع المجتمع الدولي والأنظمة السياسية في المنطقة، يعيد الأمل للشباب العربي والإسلامي الذي فقده نهائيا، ذلك أن الإرهاب والعنف والانتحار ظواهر مرتبطة بانعدام الأمل نهائيا، كما قال “جيمس ولفنستون” رئيس البنك الدولي السابق، ويهودي الديانة: “ليس هناك تطرف إسلامي أو مسيحي أو يهودي؛ لكن الأمر متعلق بالأمل، فشباب العالم ــ من أي دين وجنس ولون ــ سوف يكونون متطرفين عندما ينعدم أمامهم الأمل والفرص”. وهي مقولة تعكس عمق نظرة الرجل ودقة استغوار واستكناه الحقائق بنظر الفيلسوف الحاذق والمفكر المستنير.
وقد شهد العالم خلال الفترة الممتدة من عام 1970م إلى 2018م ما مجموعه 170 ألف عملية إرهابية، يسارية ويمينية معًا، مثل العام 2014م ذروة النشاط الإرهابي خلال الفترة المذكورة، وذلك بـ: 32 ألفا و685 عملية إرهابية، لجماعة “داعش” وحدها، خلفت وراءها كوارث مروعة في الأشخاص والممتلكات، وأغلبها في منطقة الشرق الأوسط، الموبوءة بالصراعات السياسية والاستبداد والفوضى. هذه العمليات وإن تراجعت خلال الأربع السنوات الماضية قليلا إلا أنه تراجع غير مضمون، وقد يزداد مستقبلا.
والخلاصة.. إن صناعة “المواطن العالمي” مهمّة المجتمع الدولي، بمنظماته وهيئاته الدولية الفاعلة، الرسمية وغير الرسمية، كما هو منوط ــ أيضا ــ بالأنظمة السياسية الإقليمية والمحلية التي يجب أن تُسهم في الحد من القضاء على الإرهاب بأنظمة حكم رشيدة، تعيد للمواطن ولو بصيصا من الأمل، ليكف عن الانتحار، وصناعة الإرهاب. ولا استقرار اليوم لأي دولة في العالم ــ مهما كانت كبيرة، ومهما كانت نائية ــ ما لم تسهم أيضا في صناعة هذا المواطن الصالح الذي يؤثر محليا، كما يؤثر إقليميا ودوليا على حد سواء، وقد تداخلت مصالح العالم وتشابكت فيما بينها، بفعل التطور التقني والتكنولوجي في مجال الاتصال، الذي تستغله الجماعات الإرهابية مثلما تستغله الدول والهيئات على حد سواء، فالمسؤولية مشتركة وواحدة في شرق الكرة الأرضية كما هو في غربها.