بريق “القمريات” في اليمن.. تراث معماري ارتبطت بالثقافة والإرث الحضاري
القمرية سمة من سمات المعمار اليمني التراثي
يمن مونيتور/ الجزيرة نت:
في معمله الصغير بشارع الزراعة وسط العاصمة صنعاء، يتفنن خالد الدعيمي بأنامله المتشققة بنحت نقوش مشجّرة على لوح من الجص، تمهيدا لصناعة القمرية التي ارتبطت بالثقافة والتراث المعماري اليمني منذ قرون طويلة.
والقمريات هي قطع نصف دائرية مصنوعة من الجص المرصع بالزجاج الملون، تعتلي نوافذ المنازل في نمط العمارة المعاصرة، بينما تكون دائرة مكتملة في العمارة القديمة، ومن خلالها ينفذ ضوء ملون دافئ في المنزل.
تراجع نحت القمريات
ولذلك يحرص الدعيمي على أن ينتقي أشكالا هندسية بديعة وألوانا من الزجاج الذي يسمح بتدفق أكبر مقدار من الضوء، مما جعل منتجاته تلقى رواجا. لكن رغم ذلك فإن بريق حرفته اليدوية بدأ يخبو، ولم تعد تلك المهنة تعيله مع أسرته.
يقول الدعيمي لموقع “الجزيرة نت” إن تراجع العمل في نحت القمريات جعله يسرّح عماله الأربعة، وأبقى على شاب صغير يعينه في إنجاز بعض التفاصيل الصغيرة، ولا يكلفه راتبا كبيرا في نهاية اليوم.
ويقضي الدعيمي أغلب يومه أمام معمله، في الصباح يتبادل أطراف الحديث مع المارة، وفي المساء يقرفص في الداخل يلوك أوراق القات (نبتة منبهة يتناولها اليمنيون في مجالسهم العامة لتمدهم بالحيوية والنشاط) في انتظار زبائنه.
عمارة حديثة دون قمريات
وقضت عوامل كثيرة على قطاع الحرف اليدوية، أبرزها انهيار القطاع الاقتصادي وتراجع سعر العملة المحلية، وارتفاع أسعار المواد الخام وقلة الاستيراد بسبب الحرب التي تشهدها اليمن منذ مطلع عام 2015.
لكن أسبابا أخرى عجلت في انهيار العمل في إنتاج القمريات، فعصرنة البناء الطاغية على العمران جعلت تلك القطع الملونة جزءا من الموروث الشعبي، وحلت محلها النوافذ الواسعة المصنوعة من الألمنيوم والزجاج الشفاف.
يقول الدعيمي إن الاتجاه السائد في البناء الحديث لا يحوي القمريات والزخارف الملونة، وإن حافظ بعض المهندسين المعماريين على شكل البناء اليمني فإنه يجعل النوافذ بعقود، للاحتيال على القمرية.
والقمرية تتخذ لها مكانا مستقلا عن النافذة، فهي توضع على جسر يفصلها عنها.
ووفق الموظف في البنك المركزي محمد سالم، فإن منزله -الذي بناه حديثا- لا يحتوي على القمريات، رغم أنه كان يفضّل أن يكون هناك بعضها في إحدى الغرف، للحفاظ على التراث والهوية اليمنية، ويوضح “هناك تفاصيل مهمة في الفن المعماري اليمني اختفت”.
ومع نشاط الحركة العمرانية في اليمن رغم الحرب، فإن المهندس المعماري مالك كدشة يعزو تخلي اليمنيين عن القمريات إلى تفاصيل وظيفية، فالقمرية تحجب نصف الضوء، كما أن نمط العمارة الحديث يفاضل بين لونين لا أكثر.
ويرى كدشة أن الزخارف وتعدد الألوان في بناء المنازل بات طابعا معماريا كلاسيكيا.
وأصبح نمط العمارة الحديث هو الغالب، نظرا لأن ملاك المنازل عادة ما يميلون لتقليل التكاليف، وإهمال الاهتمام بتصاميم الواجهات بما يتناسب مع التراث اليمني وطابعه المعماري.
تراجع الذائقة الجمالية
وبين أحياء جامدة منازلها ذات تصاميم متشابهة شُكلت للاستهلاك فقط، وأخرى تبرز في منازلها التفاصيل والألوان والأشكال الهندسية، يظهر بون شاسع للباحثين عن الجمال والتراث والثقافة، حسبما يقول الرجل الستيني داود البواب.
ويقول داود الذي يقطن في صنعاء القديمة -للجزيرة نت- إن من الصعب تخيل منزل دون قمريات، “سيكون مثل السجن”، مؤكداً على أن التراجع في الذائقة الجمالية في كل مناحي الحياة انعكس أيضا على المعمار اليمني.
تطور القمرية عبر الزمن
من جهته، يقول الباحث في العمارة اليمنية إبراهيم القباطي إن القمرية جزء من التميز الحضاري في البناء اليمني، وحضارات اليمن -مثل: سبأ (1000 قبل الميلاد-275 للميلاد)، وحِمير (110 قبل الميلاد-525 للميلاد)- كانت بطابع حضري ومدني بحت.
ويقول القباطي للجزيرة نت إن القمرية سمة من سمات ثراء المعمار اليمني، “وحسب الروايات التاريخية فإن قصر غمدان احتوى على القمريات في غرفه العليا، التي تُعرف الآن بالمفرج”.
ويضيف “بمرور الزمن تطورت القمرية بشكل أو بآخر، من حيث نوعية المواد المستخدمة في تشكيلها كالرخام أو الزجاج، بالإضافة إلى الشكل وهو ما يلاحظ بوضوح في المساجد الأثرية، والمنازل القديمة في صنعاء”.
ويرى الباحث أن القمرية كان لها وظيفة أخرى، فهي -إلى جانب إدخال الضوء- لا تسمح لمن بالخارج برؤية داخل المنزل، وهو ما جعلها في كل منزل بسبب طبيعة المجتمع اليمني المحافظ.
القمريات أنواع وأشكال
وتختلف القمريات من شكل إلى آخر، من حيث المادة التي تُصنع منها والزجاج الذي يزينها، ومن بين الأشكال هناك المقبب والياقوتي والشعاع والرماني والعقيق، وتختلف التسمية باختلاف الأشكال التي تكوّن القمرية.
كما أن الزجاج المستخدم في القمرية يصنع فارقا كبيرا، وعلى رأسها يأتي الزجاج الألماني الذي يجعل القمريات تعكس ألوانا براقة جميلة، لكن الإقبال عليه مقصور على الأثرياء.
ويقول الدعيمي للجزيرة نت إن “لوح الزجاج الألماني بـ45 ألف ريال (قرابة 90 دولارا) فيما الزجاج العادي بـ2500 ريال (قرابة 5 دولارات)، والفارق كبير”.