أخبرني في لقائنا الأول أن أصوله العائلية تعود إلى اليمن، كما حكى له أبوه عن جده. وهو زار اليمن مرتين، في فترتين متقاربتين، الأولى في آخر عهد الملكية والأخرى في أول زمن الجمهورية.
في السنوات الأولى من علاقتي الحميمة بالكتاب -ثم الكتابة- تعرّفت إلى بعض كتابات ابراهيم عبدالقادر المازني التي حواها كتاب بحجم قلب سندريللا حمل عنوان “صندوق الدنيا”.
ويومها انفتحت قبالتي نافذة من أثير. فقد ألهمتني كتابات المازني أولى مفاتيح القراءة لأسرار النقوش المبعثرة على جدارية الكتابة الساخرة، اثر أن وجدتُني أهفو -بل أتلهّف- إلى خوض غمار هذه التجربة التي كان لوقعها أثر السحر ودغدغته الأسطورية على جلد الوعي ومسام الوجدان.
وما هي إلاَّ بضع سنين حتى ألقت بي ريح المعرفة إلى عالم أكثر خصوبة وإثارة وتنوعاً وسلاسة في مدار الكتابة الساخرة. وقد وجدت فيه ما لم أجده لدى المازني من حميمية فائقة وبساطة خارقة، على صعيد اللغة وفي نطاق الموضوع معاً. إذْ عرفت طريقي حينها إلى عالم -بل عوالم- محمود السعدني الذي صار معروفاً بنعت “الواد الشقي”، بعد أن جعل من الشقاوة مرادفاً للظُرف والطرافة في أجمل الصور والأمثلة.
منذ ذلك الحين صرت مفتوناً بهذا القلم المسافر كالسكين في خصور الطغاة والمستبدين والفاسدين وازداد اقترابي الحميمي منه بعد أن عرّفني اليه صديقي الأستاذ الراحل حسين عبدالرازق رئيس تحرير “الأهالي” اليسارية القاهرية يومها، وبحضور الصديقين العزيزين الأستاذ صلاح عيسى والزميل عبدالودود المطري طيّب الله ثراهما، وذلك ذات مساء صيفي رطب، في المقر القديم لنقابة الصحافيين المصريين.
وبرغم أنني حملت صورة جميلة وفكرة رائعة تجاه شخص السعدني، غير أن الصورة -في الواقع- كانت أفضل والفكرة كانت أروع. فقد كان آية في التواضع توازي ظُرفه وموهبته وكانته القلمية والكلامية. وقلَّ ما تجد أديباً أو صحافياً يبرع في قدراته الشفاهية قدر براعته في قدراته الكتابية. فمثلما كان السعدني أستاذاً فذاً في الكتابة الساخرة، كان ناظر مدرسة المتحدثين الظرفاء بل قُلْ شيخ الطريقة الساخرة في الكتابة والكلام على السواء.
وقد ألتقيته ثلاث مرات، فكان في كل مرة يزداد سطوعاً في وجداني، باستماعي إلى أحاديثه وقفشاته وحكاياته التي لا تبلى ولا تُمَل، فقد كان حكَّاءً باهراً مبهراً بامتياز. وقد أخبرني في لقائنا الأول أن أصوله العائلية تعود إلى اليمن، كما حكى له أبوه عن جده. وهو زار اليمن مرتين، في فترتين متقاربتين، الأولى في آخر عهد الملكية والأخرى في أول زمن الجمهورية. وكان يتوق إلى الزيارة الثالثة بعد ذلك الزمن البعيد لكي يراها في عهدها الجديد، غير أن أمر الله كان أسرع من برق الأمنية.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.