من أين له بذلك الأسلوب القرآني الذي لا يعرفه العربي مطلقا، فلا هو شعر ولا خطابه ولا كهانة وإنما هو أسلوب مختلف، فأي خيال وصل له محمد ليأت بذلك الأسلوب!
في حواري مع صديقي حول قضية الإيمان بالله كنت قد توصلت معه إلى اتفاقات كثيرة حول مدى قوة الدليل الاستقرائي في إثبات وجود خالق وراء هذا الكون وأنه من يتصرف فيه، والدليل الاستقرائي يعتمد على حقائق علمية كثيرة يفسرها ذلك الدليل بمنهجية وترابط واتساق أقوى مما تطرحه النظرية المادية.
اقتنع صديقي بعد حوارات طويلة بأن النظرية المادية مليئة بمشكلات وعلل أكثر، وأن النظرية الإيمانية أقل عللا وإشكالا، ومن ثمّ فليس من خيار غير اختيار النظرية الإيمانية، فهذه طبيعة الاختيارات في القضايا الوجودية، لا نستطيع حسمها بالضربة القاضية.
ثم طرح صديقي سؤالا تالياً للسابق وربما يحتاج منا إلى سلسلة من النقاشات، وهو موضوع الإيمان برسول أرسله الإله للناس ليعرفهم ما يريده الإله منهم، ويعرفهم بعضا من العالم الخفي عنهم والذي لا تدركه عقولهم، ولأن الكتابات في موضوع الإيمان بالرسول قليلة جداً إذا ما قورنت بما كتب في الإيمان بالله، قلت في نفسي إذن فلتكتب ولو خلاصة عن ذلك.
لمناقشة هذه القضية أمامنا خياران وعلينا إثبات أحدهما بمجموعة من القرائن والشواهد والأدلة، فإن أثبتنا أحدهما انتفى الآخر، هذان الخياران هما:
إما أن يكون هذا الرسول كاذباً، أو أنه صادقاً، ونستطيع أن نفحص ذلك من خلال رسالته ذاتها، نبحث في الرسالة عن لغتها وقضاياها وعباراتها وعرض أفكارها، وننظر في شخصية الرسول وإمكاناته في عمل رسالة مثل تلك، في تلك البيئة والظروف والسياق التاريخي.
فإذا كانت الرسالة أكبر من أن يصيغها رجل في تلك البيئة والظروف فهذا يعني أن هناك عامل آخر تدخل في الموضوع، وأن تلك الرسالة جاءت من جهة أعلى وهي الإله.
إذن تأمل معي يا صديقي:
أولاً تأمل معي حال الجزيرة العربية التي انتسب لها هذا الشخص الذي أعلن رسالته باسم السماء، فقد كانت من أشد مناطق الأرض تخلفاً من الناحية الحضارية والفكرية، والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأقصد هنا منطقة الحجاز تحديدا، فهذه المنطقة لم تمر عليها أي حضارة فما زالت مادة خام، ولا نلاحظ في الشعر العربي قبل الإسلام أنه تأثر بحضارات قديمة أو معاصرة له.
كان يغلب على هذا المجتمع البسيط الشرك والوثنية والتفكك الاجتماعي وعقلية العشيرة، ولا يعرف أي شكل من أشكال الحكم سوى ما يفرضه الولاء للقبيلة من مواضعات.
وأوضاعه الاقتصادية كانت بسيطة جدا إذا ما قورنت بالدول التي كانت في عصره، وكذلك القراءة والكتابة لم تكن منتشرة عند كل أفراد المجتمع وإنما كانت خاصة بفئة قليلة هي أبناء زعماء قريش، وكان النبي جزءا من ذلك المجتمع بكل ثقافته، وبنص الرسالة ذاتها أنه كان قبل البعثة لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتلق أي تعليم منظم. “وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) العنكبوت.
فهذه ثقافة النبي قبل بعثته كما تصورها الآية، لم يكن يتلو أي كتاب من قبل، ولم يكن يكتب شيئاً، وهذا يعني إما أنه لم يكن يستطيع القراءة والكتابة، أو أنه لم يكن يهتم بالثقافات الأخرى ومن ثم لم يقرأ ولم يكتب شيئاً، بل حتى ثقافة قومه في الشعر والخطابة لم يؤثر عنه أنه اهتم بها أو حاول كتابة شعر أو خطابه، وما أثر عنه فقط هو أخلاقه من الأمانة والنزاهة والصدق والعفة.
عاش قبل البعثة أربعين عاما، أي أنه مر بفترة العشرينات والثلاثينات دون أن يحس الناس بأنه يريد أن يبرز عليهم أو يبحث عن شيء لإثبات وجوده، وهي الفترة الأساسية والخصبة لمن يريد مثل ذلك البروز ولفت الانتباه والاهتمام، والشعور بأنه مميز، وهي الفترة التي يكون فيها الاهتمام الجاد في تغيير المجتمع أو العالم “قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) يونس.
كانت حياته قبل البعثة بسيطة فتنقلاته واحتكاكه بالشعوب الأخرى يكاد لا يوجد، يذكر التاريخ له سفريتين قصيرتين بغرض التجارة، واحدة وهو صبي في أوائل العقد الثاني، والثانية في أواسط العقد الثالث، وكانت مكة وثنية في أفكارها لا تعرف المسيحية ولا اليهودية، ولم يكن لديها اهتمام بأي ديانة، وحتى أولئك الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام، كان تأثرهم أكثر ببقايا دين إبراهيم لا باليهودية والمسيحية، ولم يؤثر عن أحد منهم شيء له تعلق بثقافات أخرى.
هذه بشكل سريع كانت طبيعة البيئة لصاحب الرسالة، أما الرسالة التي جاء بها ذلك الرسول ففيها من الخصائص التي تجعلنا نؤمن أن قدرات ومؤهلات ذلك الشخص وفي تلك البيئة والظروف لا تجعله يأتي بمثل مضمون تلك الرسالة.
فهي تعطي صورة عن الإله مختلفة عما جاءت به الثقافات الأخرى، فكمية التجريد في صفات الإله لا توجد في أي ديانة أخرى سواء كان مبتدأها سماوي أو أرضي، وطبيعة العلاقة بين الإنسان وربه، وكمية القيم الأخلاقية التي لم يكن مجتمعه الوثني المعزول.
يتحدث عن الحرية وتحرير الإنسان، وعن المساواة بين الأحرار والعبيد في مجتمع ينغمس بعكس ذلك، يعاني من أجل تلك القيم ويكابد ويتحمل كل ألم ليغير الناس وتبلغ رسالته أقصى مدى.
هل استطاع أن يخدع كل أولئك الناس، هل بلغ خداعه أن تبلغ رسالته كل الجزيرة العربية ومن ثم لكل العالم، وصارت رسالته تلك واحدة من أهم منعطفات البشرية.
يتحدث عن قيم سياسية واجتماعية واقتصادية بلغة محكمة ليجعل منها قيما خالدة، قيم لم تكن لتستطيع مخيلة العربي إنتاجها مهما بغلت من الذكاء والتخيل.
رسالة تتحدث عن قصص الأمم السابقة وتعدل فيها، وتضيف وتختصر، وكأن صاحبها يعرف كل كتابات التوارة والإنجيل، وهو الذي لم يعرف ذلك من قبل، ولم تعرف ذلك مكة، كيف لشخص ينكر أهم فكرة قال بها النصارى وهي الصلب، ويضيف له معجزة الحديث في الصغر بما لم يذكره أي إنجيل.
إن بعض الدراسات المعاصرة حاولت أن تثبت أنه أخذ من التوراة والإنجيل، فإذا بها تجمع عشرات النسخ المختلفة من التوراة والإنجيل مما لم يكن موجودا في القرن السابع مطلقا، فبعضها اكتشفت مخطوطاتها مؤخرا، فكانت دراستهم دليلا على عكس ما أراداوا.
من أين له بذلك الأسلوب القرآني الذي لا يعرفه العربي مطلقا، فلا هو شعر ولا خطابه ولا كهانة وإنما هو أسلوب مختلف، فأي خيال وصل له محمد ليأت بذلك الأسلوب!
إن الفارق في المجتمعات بعد رسالته تلك لم يكن فارقا عاديا، بل فارقا نوعيا أحدث تحولا كبيرا إلى اليوم.
هناك كلام كثير يمكن قوله عن الرسالة وما فيها مما لا يمكن أن يكون صدر من رجل مدع وربما في لقاءات قادمة نتحدث عنها، لكن بناء على ما ذكرت من مواصفات الرسول ومواصفات الرسالة لا نملك إلا القول أن وراء تلك الرسالة وحي سماوي لتوجيه أهل الأرض، وأن صاحبها كان صادقا لا مدعيا. “وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” الشورى: 52.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.