في ساعة واحدة من كل أسبوع يتحرك الملايين في كل بقاع الدنيا بتلقائية ورغبة نحو الجوامع الكبيرة والصغيرة لأداء صلاة الجمعة، ولا يحتاجون إلى تجديد دعوة، ولا يراعون فيه حضور شخص معين أو غيابه، يستمعون في كل مسجد إلى خطيب واحد، بعقول وقلوب مفتوحة، نظراً لقدسية الداعي، وشرف المكان، وبركة الزمان، وعظمة الهدف، وحسن المكافأة. في ساعة واحدة من كل أسبوع يتحرك الملايين في كل بقاع الدنيا بتلقائية ورغبة نحو الجوامع الكبيرة والصغيرة لأداء صلاة الجمعة، ولا يحتاجون إلى تجديد دعوة، ولا يراعون فيه حضور شخص معين أو غيابه، يستمعون في كل مسجد إلى خطيب واحد، بعقول وقلوب مفتوحة، نظراً لقدسية الداعي، وشرف المكان، وبركة الزمان، وعظمة الهدف، وحسن المكافأة.
وحينما نلقي نظرة على واقع الدور الذي تقوم به مساجدناً اليوم، فإننا نشاهدها في صور عدة:
(1) خطاب واع، يدرك أهمية المناسبة، ويستوعب متطلبات الظروف والأحوال، ويغوص بالحلول في أعماق المشكلات، ليجلّيها بلا تهويل ولا تهوين، ويقدم في كل جمعة وجبة نافعة تستمتع بها الأرواح، وتطمئن لها القلوب.. وإذا فَرضت عليه الأحوال كلاماً خارج الوعظ والإرشاد والذكر، لم يسخر الدين للدنيا، ولم يغرق في تفاصيل السياسة، ولكنه يبرز جانب العبرة التي يستفيد منها الناس على مستوى الفرد والجماعة، ولم يكتف بمجرد النقد والصراخ والإثارة والتحريض.. بل يبشر ولا ينفر، ويؤلف ولا يشتت، يخوض في المشتركات، ويتلطف في المفترقات، يعتمد مبدأ: (وقولوا للناس حسنا). ولا تغيب عنه فلسفة ومنهج: (ادفع بالتي هي أحسن).
(2) خطاب تغلب عليه روح السياسة، وتغذيه الدوافع الحزبية، والمناكفات السياسية، التي بدورها تحوّل منبر الجمعة إلى وسيلة إعلام ناطقة باسم هذا الحزب أو تلك الجماعة، وبذلك يكرر المنبر دور الصحافة الحزبية والمحطات الفئوية، ولكن بصبغة دينية، تُطوَّع فيها الآيات القرآنية، وتُستنفر لها الأحاديث النبوية، لتزين موقف هذه الجماعة، أو تشويه موقف أولئك. فبدلاً من سماع ما يريح النفوس من صخب وسائل الإعلام السياسية طيلة أيام الأسبوع، يجد الناس أنفسهم أمام نفس الخطاب، ولكن بصراخ وتهويل، واستخدام للدين لتحقيق أهداف دنيوية، وعرض للأحداث بسذاجة، وتقديم مقترحات مرتجلة معمدة بفتاوى فورية (يجب .. لا يجوز) وهكذا.
(3) خطاب متشبع بالمذهبية، يعكف على تفحص النصوص الدينية، ويوغل في تأمل مناهج الناس وسلوكهم ليعتصر من النصوص ما يجعله مادة لانتقاد مخالفيه فكراً وسلوكاً، وكأنه مبعوث لإثارة القلاقل، وتمزيق الشمل، وتشتيت الجمع. حتى أنك تجد الناس يخرجون من الجامع بعد الصلاة وقلوبهم موجعة من أثر التحريض، ونفوسهم مشحونة ضد خصم وهمي يكون في الغالب إما قريب أو صديق أو جار أو شريك، ولن يكون أبداً عدواً حقيقياً، يستحق وجع القلوب وحنق النفوس. لأن تحريض المتمذهبين لا يكون إلا على فرقائهم ونادراً ما يكون على أعدائهم.
(4) خطاب معلب، يتمثل في نصوص مكتوبة، يتم ترديدها على مدار السنة، دُونت في أزمنة وظروف مختلفة، يقرؤها الخطيب بأسلوب ممل، ويرددها على أسماع الحاضرين حتى صار بعضهم يحفظها عن ظهر قلب، لا يُرعى فيه مقام، ولا يُعتبر فيه تماثل الأحوال والظروف، وبذلك يكون وجوده كعدمه، أو يثير بلبلة ويجلب زوبعة، ليس للناس فيها ورد ولا صدر.
وهذا يؤكد أن خطاب المنابر يحتاج إلى تقويم وترشيد وإنعاش، ليؤدي دوره في تهذيب الفرد وتنظيم الأسرة وتقويم سلوك المجتمع. والبداية من إصلاح الخلل الناتج عن أمرين:
أحدهما: قصور الموجهات العامة للخطاب الديني عبر مؤسسة المسجد، فهو يفتقر إلى ثقافة عقلانية بعقلانية القرآن، ووسطية بوسطية الإسلام، وذلك يتطلب وجود رابطة طوعية غير موجهة سلطوياً، تعمل مرحلياً على صنع توجه بناء لدى رواد المنابر حتى يتفاعلون معه تلقائياً دونما إملاء حزبي أو مذهبي، أو فرض نموذج معين، لأن الخطيب إذا اقتنع بالإطار العام الذي يجب أن يتحرك فيه فإنه ينميه ويطوره ويجعله متلائماً مع البيئة التي يعيشها والمجتمع الذي يخاطبه.
الثاني: تدني مستوى ثقافة بعض الخطباء، وسطحية كثير منهم.. فمن جهة ينغلق بعضهم على نمط معين من المعارف ويحصرون أنفسهم في مدرسة واحدة، بحجة أنها الناجية وما عداها فرق مبتدعة وأصحاب أهواء وضلالات. ومن جهة يتعاملون بسطحية مع النص المقدس ويفرضون له فهما معيناً، ويعممونه على المستمعين مؤكدين بأن هذا هو فهم أهل الحق ومخالفته انحراف وضلالة.