الفقه الإسلامي فيه ثروة كبيرة في الأحكام السابقة إذا استثنينا الأحكام الدستورية والعلاقات الدولية، ويمكن الاستفادة من ذلك التراث الكبير لننتقي أجمل وأنسب ما ينفعنا اليوم ويحقق المصلحة العامة للجميع.
من الأسئلة المهمة التي تطرح على فكرة الدولة المدنية في المجتمعات الإسلامية هو: أين موقع الأحكام الدينية من الدولة المدنية التي تنادون لها؟ وأين تتقاطع وتتوافق تلك الأحكام مع الدولة المدنية؟
وللإجابة على هذا السؤال أجد أني بحاجة لتعريف القارئ على أنواع تلك الأحكام وتفصيلها، ليسهل نقاش كل فكرة على حده.
بحسب الاستقراء للأحكام الدينية في الفكر الإسلامي يمكننا القول إننا أمام ثلاثة أنواع من الأحكام:
ما هو ذات طابع ديني خالص، وهي الأحكام التي لا يستطيع إنشاءها العقل وإنما دوره فقط هو فهمها والإيمان بها وممارستها سلوكا، وهو ما ينتمي لحقوق الله الخالصة بحسب التعبير الأصولي.
وما هو ذات طابع ديني ومدني في نفس الوقت وهي تلك الأحكام التي يأتي بها النص ويدرك العقل علتها ومصلحتها ويجتهد في تنزيلها بما يناسب، ويمكن تغيير الحكم إذا تغيرت العلة أو المصلحة، وكل تلك الأحكام يحكمها قانون المصالح والمفاسد، وهو ما ينتمي لحقوق العباد بحسب التعبير الأصولي.
وما هو ذات طابع مدني خالص، وهي تلك الأحكام التي يتوصل لها العقل في ضوء مقاصد الدين وكلياته، وهنا يبحث العقل عن ما يحقق المصلحة للإنسان من أي وعاء جاءت، ويشترك في هذا الأحكام مع كل إنسان سواء كان مشاركاً له في الدين والمذهب أم لا. وتنتمي أيضا لحقوق العباد التي ترك الله سبحانه للعقل ليتوصل لها، لأن عامل الزمان والمكان مؤثر فيها بشدة.
نأتي الآن إلى خلاصة سريعة للتقسيم الفقهي للأحكام الدينية، وعلاقتها بالديني والمدني وتقاطعها أو توافقها مع الدولة المدنية:
الأول: أحكام اعتقادية: تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهذه ذات طابع ديني خالص، وليس من وظيفة الدولة المدنية إلزام أحد بمذهب أو دين أو عقيدة.
والثاني: أحكام خلقية: تتعلق بما يجب على المكلف أن يتحلّى به من الفضائل وأن يتخلى عنه من الرذائل. وهذه ذات طابع ديني ومدني، ويمكن أن يتوافق عليها الجميع، واعتبار القيم الخلقية مرجعاً أخلاقياً للمجتمع.
والثالث: أحكام عملية، تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات.
والأحكام العلمية في الفكر الإسلامي تنتظم نوعين:
الأول: أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج ونذر ويمين ونحوها من العبادات التي يقصد بها تنظيم علاقة الإنسان بربه، وهذا ذات طابع ديني خالص، وليس من وظيفة الدولة المدنية إلزام أحد بشعيرة أو عبادة ما.
وأحكام المعاملات من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها مما عدا العبادات، وما يقصد بها تنظيم علاقة المكلفين بعضهم ببعض، وسواء أكانوا أفراداً أم أُمما أم جماعات.
فأحكام ما عدا العبادات تسمى في الاصطلاح الشرعي أحكام المعاملات. وأما في اصطلاح العصر الحديث، فقد تنوعت أحكام المعاملات بحسب ما تتعلق به وما يقصد بها إلى الأنواع الآتية:
1. أحكام الأحوال الشخصية: وهي التي تتعلق بالأسرة من بدء تكونها، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض، وتسمى في الفقه “أحكام الأسرة”.
2. الأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة مداينة ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق كل ذي حق. وتسمى في الفقه “أحكام المعاملات المالية”.
3. الأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبة، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأُمّة، وتسمى في الفقه “أحكام الجرائم والعقوبات”.
4. أحكام المرافعات: وهي التي تتعلق بالقضاء والشهادة واليمين، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لتحقيق العدل بين الناس. وتسمى في الفقه “أحكام القضاء والدعوى والبينة”.
5. الأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق، وتسمى في الفقه “أحكام السياسة الشرعية”.
6. أحكام العلاقات الدولية: وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإسلامية لغيرها من الدول، وبمعاملة غير المسلمين في الدول الإسلامية، ويقصد بها تحديد علاقة الدول الإسلامية بغيرها من الدول في السلم وفي الحرب، وتحديد علاقة المسلمين بغيرهم في بلاد الدول الإسلامية، وتسمى في الفقه “أحكام السير”.
7. أحكام المالية العامة: وهي التي تتعلق بحق السائل والمحروم في مال الغني، وتنظيم الموارد والمصارف، ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء وبين الدول والأفراد، وتناقش في الفقه ضمن “أحكام الزكاة وما يتعلق بها”.
ومن استقرأ آيات الأحكام في القرآن يتبين أن أحكامه تفصيلية في العبادات وما يلحق بها من الأحوال الشخصية والمواريث، وأما فيما عدا العبادات والأحوال الشخصية من الأحكام المدنية والجنائية والدستورية والدولية والاقتصادية، فأحكامه فيها قواعد عامة ومبادئ أساسية، ولم يتعرض فيها لتفصيلات جزئية إلا في النادر، لأن هذه الأحكام تتطور بتطور البيئات والمصالح، فاقتصر القرآن فيها على القواعد العامة والمبادئ الأساسية ليكون ولاة الأمر وأهل الشورى في كل عصر في سعة من أن يفصلوا قوانينهم فيها حسب مصالحهم في حدود مقاصد الدين وكلياته.
والسؤال المهم في هذا الموضوع هو كيف ستكون علاقة تلك الأحكام مع الدولة المدنية؟
أولاً: بالنسبة للأحكام الدستورية، وأحكام العلاقات الدولية، وأحكام المعاملات المالية، وأحكام المرافعات، فيمكن التوافق عليها باعتبارها أحكاماً مدنية يسعى الجميع لصياغة ما يحقق المصالح ويدرء المفاسد، وغالب ما ورد فيها كان ضمن مقام النبي في ولاية الأمر.
ثانياً: بالنسبة لأحكام الأحوال الشخصية، فإن كان المجتمع يدين بدين واحد للجميع فتصاغ تلك الأحكام بطريقة قانونية، وتصبح قانونا مدنياً للجميع، وإن كان مجتمعاً متعدد الأديان والمذاهب فيمكن لأهل كل دين أو مذهب أن يتحاكموا إلى دينهم أو مذهبهم بمحاكم خاصة، وأما المجتمعات التي يغلب عليها دين واحد وفيها أقلية لا دينية، فتصاغ تلك الأحكام بطريقة قانونية، ويمكن أن يحتكم لها اللادينيين، باعتبارها أحكاماً مدنية دون النظر لمصدرها.
ثالثاً: بالنسبة للأحكام الجنائية، فتجد أن المنصوص قليل جدا والباقي اجتهاد، والمنصوص وغير المنصوص مداره على تحقيق العدل، لذا يمكن تقنينه والاتفاق عليه، ويمكن الاجتهاد في شكل بعض العقوبات بما يحقق المقصد وبحسب المصلحة العامة، وأما ما كان اجتهادا فيمكن الأخذ به أو تجاوزه لما يحقق العدل بدرجة أكبر.
رابعاً: بالنسبة لأحكام المالية العامة فيمكن تقنين ما جاء في الفقه الإسلامي، باعتبارها أحكاماً مدنية للجميع، ولن نجد اشتغالا على هذه القضية بشكل عادل وحكيم ومفصل كما نجده في الفكر الإسلامي.
وللحقيقة، فالفقه الإسلامي فيه ثروة كبيرة في الأحكام السابقة إذا استثنينا الأحكام الدستورية والعلاقات الدولية، ويمكن الاستفادة من ذلك التراث الكبير لننتقي أجمل وأنسب ما ينفعنا اليوم ويحقق المصلحة العامة للجميع، مع الاستفادة من تجربة الآخر فيما تأخرنا فيه.
المقالات المنشورة لا تعبّر بالضرورة عن سياسة (يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشرها دون الإشارة إلى مصدرها الأصلي.